لقاء المصالحة الذي حصل بين الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله ورئيس «تيار المستقبل» النائب سعد الحريري، كان مطلوباً من الطرفين، لحاجتهما اليه، لإزالة ما ترسخ عند جمهورهما من احتقان سياسي تحوّل الى تعبئة مذهبية، لا تخدم المقاومة التي ترفض أن تنزلق الى الفتنة المذهبية، كما ان «تيار المستقبل» يهدر كل تراث الرئيس رفيق الحريري الذي كان ضد من يمد يده على سلاح المقاومة ويحاول أن ينتزعه، وامتنع عن إنشاء ميليشيا، حيث انحرف النائب الحريري عن نهج والده، ورضخ لمقولات المتطرفين من تياره السياسي وحلفائه وتوجه نحو عسكرة «تيار المستقبل»، وغرق في الحالة المذهبية، وقد تنبه لذلك بعدما وجد نمو التطرف السني الاصولي الى جانبه وتقدم عليه داخل الطائفة السنية، مما أربك وضعه السياسي، وعلاقاته الداخلية والعربية والدولية.فالضرورة الوطنية عند السيد حسن نصر الله والنائب الحريري، عجلت بالمصالحة بينهما، وقد طلبها رئيس «تيار المستقبل» بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان في صيف 2006، للتكفير عما ارتكبه من خطيئة كبرى بحق المقاومة عندما اعتبر عملية أسر الجنديين الاسرائيليين في 12 تموز من ذاك العام مغامرة، وهو كان يردد ما قاله المسؤولون السعوديون والتزم بتوجههم، ظناً منه ومنهم، أن المقاومة وقعت في «الشرك الاسرائيلي»، وأن الحرب عليها ستنهيها خلال أيام معدودة، لكن صمودها أفشل ما كان يضمره، وهو الذي كان يحذر من أن اسرائيل قد تقوم بعمل عسكري جاء مخيباً لآمال وأهداف الذين راهنوا عليه من أميركا الى الدول العربية المعتدلة وحلفائهم من قوى 14 شباط، وكل هؤلاء صدموا بتصدي المقاومة للعدوان وصمودها 33 يوماً، لكنهم أكملوا في مشروعهم وهو نزع سلاح المقاومة من خلال قرار يصدر عن مجلس الامن الدولي، أو عبر قرار عن مجلس الوزراء اللبناني يطلب من «حزب الله» تسليم سلاحه، الا انه تم تفشيل القرارين، فذهب الفريق الحاكم الى «لقاء البريستول» وأصدر بياناً يؤكد فيه ضرورة أن تسلم المقاومة سلاحها الى الدولة وأن يكون قرار الحرب والسلم لها، فتم تفجير أزمة سياسية ثم وزارية، وكان «تيار المستقبل» شريكاً أساسياً في الوقوف ضد سلاح المقاومة فوتّر العلاقات بينه وبين «حزب الله» خصوصاً وأطراف المعارضة عموماً، ودخلت البلاد في وضع سياسي وأمني غير مستقر، فوقعت اشتباكات وسقط قتلى وجرحى، وتعمق الانقسام الداخلي، وكان أقسى ما حصل عندما اتخذت الحكومة قرارها بتجريد المقاومة من سلاح الاشارة «الاتصالات»، مما اضطر السيد نصر الله الى إعلان الدفاع عن هذا السلاح، وفرض تحرك المعارضة على الارض ان تتراجع الحكومة عن قراريها، وتدخل قطر لمعالجة الازمة تحت سقف المبادرة العربية، وصدر اتفاق الدوحة، وتم تطبيقه لجهة انتخاب رئيس جمهورية توافقي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية للمعارضة فيها الثلث الضامن، وإقرار قانون انتخاب على أساس قانون 1960، وعدم اللجوء الى استخدام السلاح، واستعادة الحوار برعاية رئيس الجمهورية للبحث في الاستراتيجية الدفاعية.ومع تطبيق مجمل بنود اتفاق الدوحة، فتحت طرق الحوار والمصالحة بين الاطراف المتنازعة، وكان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي أول من استسلم لذلك، بعدما تبين له فشل مشروعه، وأصابه الإحباط من انه لم يتمكن من الالتزام بوعده بنزع سلاح المقاومة ولو الجزء المتعلق بالاتصالات، فأعلن هزيمته واستسلامه وسلّم مراكزه الى الجيش والمعارضة، وقرر التصالح مع «حزب الله» ولو بفك الاشتباك الامني، بعدما ظهرت له قوة المعارضة التي يمكنها أن تسيطر على أجزاء كبيرة من لبنان وتتسلم السلطة فقرر الحد من خسائره مع حلفائه فلجأ الى المصالحات وشجع الحريري عليها بعدما سبقه اليها من خلال اللقاءات التي حصلت بين حزبه و«حزب الله» في دارة الوزير طلال ارسلان في خلدة وبمسعى منه.ظل الحريري متريثاً في الاتجاه نحو المصالحة وهو الذي طالب بلقاء السيد حسن نصر الله، لأن هناك من حرضه على ضرورة أن يسبق أي لقاء، اعتذار «حزب الله» من بيروت والسنّة، كما ضغطت الادارة الاميركية عليه لإرجاء الاجتماع مع نصر الله بانتظار تطورات ما في المنطقة، ولم يقبل المسؤولون السعوديون ذهابه الى اللقاء من موقع المهزوم ولا بد من تسجيل انتصار ما على المعارضة، فكانت أحداث طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن وفي البقاع بين تعلبايا وسعدنايل، مع أحداث متفرقة في بيروت وبعض مناطق البقاع وعكار، وقد فشلت كل هذه المحاولات لأن التحريض المذهبي الذي اتبع من قبل أطراف في الساحة السنية ومنها «تيار المستقبل»، وادعاء أن السنّة تعرضوا للإهانة والإذلال، دفع الساحة السنية الى التطرف، وظهرت حركات سلفية واخرى تابعة لتنظيم «القاعدة»، مما خلق وضعاً مربكاً للحريري الذي تعرض لضغوط أوروبية تستفسر منه عن سبب نمو الحركات الاصولية في كنف «تيار المستقبل»، الذي ظن أن التهديد بهذه الحركات يفرض على «حزب الله» التراجع والاعتذار والقبول بمصالحة تجري في قريطم، لكن الحزب أدرك ما يخطط وقرر التفاوض مع حركات وقوى سلفية في الشمال ووقع معها وثيقة تفاهم، تنبه لها الحريري ومعه دار الفتوى ومسؤولون سعوديون، فقرروا مواجهتها وتوصلوا الى تجميدها بالضغط النفسي والمعنوي والمادي وتهديد الموقّعين الذين علقوا العمل بالوثيقة، وأعلنوا أن المصالحة تمر بـ«تيار المستقبل» كمرجعية سياسية للسنة وبدار الفتوى كمرجعية دينية.وبعدما حقق «حزب الله» وحلفاؤه أهدافهم السياسية، توجه وفد من الحزب الى قريطم والتقى الحريري، كما قام نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الشيخ عبد الامير قبلان بزيارة مفتي طرابلس والشمال الشبخ مالك الشعار، والصلاة معاً، وتأكيد الشيخ قبلان ان ما حصل في بيروت كان خطأ وهذا ما مهّد لحصول لقاء السيد نصر الله والحريري، الذي وصف بالممتاز وقد استعاد صورة اللقاءات التي كانت تعقد بين نصر الله والرئيس الحريري، الذي أكد في آخر لقاء جمعه مع الامين العام لـ«حزب الله» انه لن يفرط بالمقاومة ولا يقبل بنزع سلاحها، ويترك لبنان اذا ما فرض عليه ذلك.وهذه الرواية ينقلها السيد نصر الله دائماً، وهو أعلنها بعد اغتيال الحريري لإبلاغ من يعنيهم الامر، لا سيما من ورثه بالسياسة، أن لا يخرجوا عن هذه الثوابت التي هي ضمانة للاستقرار الداخلي وتثبيت السلم الاهلي.وفي حوارات بين سيد المقاومة وسعد الحريري، سبقت القطيعة بينهما قبل عامين، كان الجو إيجابياً وعقد اتفاق بين «تيار المستقبل» من جهة وحركة «أمل» و«حزب الله» من جهة ثانية في الرياض يؤكد على هذه الثوابت، إلا أن جنبلاط وسمير جعجع تصديا له وفرضا على الحريري التراجع عن توقيعه عليه فتم إحراجه بأنه في قبضتهما وهو ما كشفه مسؤولون سعوديون وطالبوا بتحريره منها وان لهما مصلحة في حصول خلاف سني-شيعي ستكون له تأثيراته السلبية على كل المنطقة.ومع الاتجاه الذي سلكه جنبلاط نحو المصالحة، فإن الحريري تقدم هو ايضا خطوات الى الأمام وحصل اللقاء مع السيد نصر الله، الذي لم يجدد التحالف الانتخابي، ولم يقم تفاهماً سياسياً، بل أكد بيان مشترك بينهما على مرجعية اتفاقي الطائف والدوحة، وعلى مرجعية الدولة، وعلى العمل الحكومي المشترك، وعلى ان تقوم الاجهزة العسكرية والامنية بدورها في حل أي إشكال أمني.ولقد أراحت هذه المصالحة الجو الداخلي، ونفست الاحتقانات، وقد سبقتها إجراءات على الارض بإزالة اللافتات والصور، وإلغاء كل مظاهر الاستفزاز، وإقامة حلقات حوار في الأحياء، حيث تشجع هذه الأجواء على حصول انتخابات نيابية هادئة، كما أنها تجنب لبنان عواصف تأتيه من الخارج في ظل التحولات السياسي السريعة إقليمياً ودولياً، ومع الانهيارات المالية.
Leave a Reply