ثمة مقولة شعبية شائعة في بلادنا تفيد بأن التاجر الذي يتهدده الافلاس يلجأ الى «فتح دفاتر جده العتيقة» لعل وعسى ان يجد فيها من «الارصدة النائمة» ما يقيه شر الافلاس وينشله من حفرته.تذكرت هذه المقولة وانا اشاهد على مدى يومين متتاليين محطات التلفزة الاميركية وهي تكرس مساحة رئيسية من برامجها وتعليقاتها لـ«اكتشاف خطير» حققه الحزب الجمهوري حول صداقة قديمة كانت تربط بين المرشح الديموقراطي للرئاسة باراك اوباما والبروفسور الاميركي الفلسطييني رشيد الخالدي الذي قدمته التقارير الاعلامية بوصفه ناطقاً سابقاً باسم منظمة التحرير الفلسطينية.نائبة المرشح الرئاسي الجمهوري سارة بالين وقفت في تجمع انتخابي متواضع في ولاية فيرجينيا متناولة هذا «الاكتشاف» كمن عثر على كنز. ولم يكن من الصعب ملاحظة الفرح العارم الذي كان يغمرها وهي تتعثر بلفظ اسم البروفسور الفلسطيني وتسأل: ما هو موقف اوباما من صداقته بالخالدي الذي تجرأ دائماً على مهاجمة اسرائيل واتهامها بما تستفظعه الـ«هوكي مام» من تهم يجب ان يندى لها جبين المرشح الاسمر(!).الحملة الجمهورية بدءاً من رأسها السناتور ماكين وشركيته بالين فتحا معركة اعلامية مع صحيفة «لوس انجلوس تايمز» على خلفية ترددها في الافراج عن شريط فيديو يظهرفيه الزميلان في جامعة شيكاغو البروفسور باراك أوباما والبروفسور رشيد الخالدي في منتصف التسعينات خلال مناسبة تشتبه الحملة الجمهورية انها كانت حفلاً للتضامن مع القضية الفلسطينية، وتواطؤاً من قبل البروفسور الجامعي آنذاك باراك اوباما مع زميله الخالدي ضد دولة اسرائيل «الديموقراطية» وتطاولاً عليها، علماً ان الادارة الاميركية الجمهورية في عهد بوش الاب كانت قد شرعت افتتاح ممثلية رسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الاميركية.المرشح الجمهوري ونائبته ومعاونوه اخفقوا في سياق الحملة الانتخابية غير الموفقة التي خاضوها حتى الآن في احداث ثغرة في جدار الصمود الذي ابداه المرشح الشاب باراك اوباما: لم تنفع محاولات ربطه بصداقة مع «الارهابي اليساري الاميركي» المناهض لحرب فيتنام في حقبة الستينات والسبعينات بيل آيريز (كان اوباما في بداية مراهقته آنذاك)، ولم تنفع ايحاءاتهم المتكررة للطعن بـ«وطنية» اوباما الاميركية، ولا تحذيراتهم المثيرة للسخرية بأن اوباما يريد تطبيق اشتراكية من المخزون الفكري للرفيق كارل ماركس تقوم على توزيع الثروة بين الاغنياء والفقراء، وقبل ذلك محاولة استحضار الاصول الافريقية المسلمة لباراك «حسين» اوباما، الى ان عثروا على «اكتشافهم» الاخير عن علاقة اوباما بالبروفسور الاميركي الفلسطيني رشيد الخالدي، وهذه «التهمة» الجديدة تبدو على علاقة بما شاع مؤخراً عن قيام مجموعات شبابية يهودية اميركية بالانخراط في حملة المرشح الديموقراطي وبذل جهود لإقناع الناخبين اليهود كبار السن في معاقل مهمة مثل فلوريدا بأن لا شيء يعيبهم في انتخاب افريقي اميركي الى الرئاسة.لكن ما يبدو انه قد فات المرشح الجمهوري المترنح تحت ضغط استطلاعات الرأي ان علاقة مفترضة جمعت بين غريمه الديموقراطي اوباما وصديقه الفلسطيني لم يعد من شأنها ان تفسد للود اليهودي تجاه اوباما أي قضية، طالما ان عتاة الصهاينة في الدولة التي يخشى ماكين وشريكته بالين عليها من سوء سلوك محتمل اذا وصل اوباما الى البيت الابيض، يتحدثون بصورة يومية الى اقطاب «منظمة التحرير الفلسطينية» ويخوضون واياهم مفاوضات سلام متواصلة ويحرصون على بقاء المنظمة او ما تبقى لها من نفوذ على الخارطة السياسية الفلسطينية.احدى محطات التلفزة (ام. اس. ان. بي. سي) تهكمت على احدث «تهمة» تسوقها الحملة الجمهورية ضد اوباما بكشف واجهه الجمهوريون بصمت القبور وهو ان مؤسسة اميركية خيرية يرأسها السناتور ماكين نفسه كانت قد قدمت تبرعات بمئات الوف الدولارات لبرنامج اكاديمي يشرف عليه الخالدي يتعلق ببحث حول اوضاع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.المحطة ذاتها سفهت مزاعم ماكين – بالين عندما عرضت مقطعاً مصوراً للمرشح اوباما خلال بداية حملته في اطار الانتخابات التمهيدية لتسمية مرشح الحزب الديموقراطي، عندما طرح عليه سؤال في تجمع لناخبين يهود حول علاقته بالبروفسور الخالدي واجاب: «انه واحد من بين عشرة اصدقاء لهم رؤى وافكار لا اتفق معها بالضرورة وتختلف عن افكار التسعة الآخرين، وهذا لا ينتقص من دعمي لدولة اسرائيل على الاطلاق»، فنال على اجابته عاصفة من التصفيق!.الحملة الجمهورية وصلت الى شفير الافلاس المعنوي والمادي امام زحف اوباما بجيش متطوعيه الذي يقدر بعشرات الآلاف وقدرته على الانفاق التي تزداد يوماً عن يوم، وآخرها شراء نصف ساعة من وقت البث الحساس على ست محطات تلفزة رئيسية على مدى الأيام الفاصلة عن يوم الانتخابات في 4 نوفمبر، فتلجأ الى فتح كل الدفاتر العتيقة لنبش ما يمكن ان يسعفها في ردم الهوّة الشاسعة مع المرشح الديموقراطي دون ان تفلح، قبل ايام قليلة من الموقعة الرئاسية، في تعديل الخارطة الانتخابية لصالح مرشحها.يدرك السناتور ماكين في قرارة نفسه انه يقوم مع حزبه الجمهوري بتسديد فواتير الاخطاء الكارثية التي ارتكبتها ادارة الرئيس المغادر جورج دبليو بوش، لذا سعى في الاسابيع القليلة الماضية الى تمييز نفسه عن الرئيس الذي احرز رقماً قياسياً في تدني الشعبية مطلقاً خطاباً انتقادياً لهذه الادارة ومتعهداً بالعمل على اصلاح دهر الفساد الجمهوري. لكن واقع الحال الانتخابي على ضوء نزوح جزء غير يسير من القاعدة الجمهورية باتجاه الارض الديموقراطية يقول: على من تلقي مزاميرك يا ماكين؟ فهذا الحزب لم يعد في مواجهة هزيمة ماثلة بوضوح وحسب، بل يستعد لعملية «نقد ذاتي» ومراجعة شاملة لاخطائه وإنتاج قيادة جديدة قادرة على اعادة وضعه على الخارطة السياسية، بعد الهزيمة التي تلوح نذرها بقوة في 4 نوفمبر، ليس على مستوى الرئاسة فقط، بل في الكونغرس ايضاً الذي ينتظر ان يعزز الديموقراطيون سيطرتهم عليه ويسلبوا اخصامهم الجمهوريين اي قدرة على عرقلة سياساتهم لسنوات طويلة قادمة. وبما ينبئ بسيطرة ديمقراطية ليبرالية على مفاصل القرار الاميركي سوف تنسحب آثارها على مجمل السياسات الداخلية والخارجية للدولة العظمى التي تهتز تحت وطأة ازمة مالية واقتصادية نادرة الحصول في التاريخ الاميركي.بالطبع، يجب ان لا نغرق في اوهام تغيير سحرية اذا وصل باراك اوباما الى البيت الابيض، فالارث الذي ستسلمه الإدارة الجمهورية الى الرئيس الجديد سيضعه امام تحديات كبيرة وامتحانات مبكرة مثلما توقع السناتور جوزيف بايدن قبل نحو اسبوعين.يبقى ان «الانجاز» الابرز الذي حققته الحملة الجمهورية يتمثل بصعود نجم، «جو السمكري» على المستوى القومي، وتهافت «المعجبين» على الحصول على أوتوغرافه وهو يقف الى جانب ماكين في التجمعات الانتخابية.يقال ان «جو» سيرشح نفسه في المستقبل لعضوية الكونغرس الاميركي. لكن «السمكري» الأشهر في أميركا هذه الآونة لن ينجو اذا قرر ذلك من تشكيك الديموقراطيين بسجله، على ضوء تقارير افادت انه غير مجاز لمهنة السمكرة!.
Leave a Reply