زارها لتطبيع العلاقات شعبياً بعد عبورها رسمياً
حمايته للمقاومة وإيمانه بمشرقية المسيحيين مهّدا له الطريق
شكّل الإستقبال الحار والكبير، للعماد ميشال عون في سوريا، مفاجأة للجميع، إذ كرم الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد ضيفه تكريماً يليق برجال الدولة، مما أثار خصوم عون في لبنان، على هذه الحفاوة التي قوبل بها من قبل المسؤولين السوريين، وفي مقدمهم الرئيس السوري، الذي التقاه ثلاث مرات، وحوّل اللقاءات من طابعها الرسمي، إلى عائلية وحميمية، بحيث التقت عائلتا الأسد وعون، في تفقّد المعالم الأثرية في مدينة حلب، وفي الغداء الذي جمعهما، في لفتة إلى أن سوريا ربحت صديقاً جديداً في لبنان، بعد أن كان خصماً شريفاً.فالزيارة فاقت في برنامجها ما كان متوقعاً، وتخطّت الطابع الرسمي إلى تفاعل عون والوفد المرافق له من «التيار الوطني الحر»، مع شرائح الشعب السوري لإنهاء مرحلة سوداء من العلاقة اللبنانية-السورية، اعتبرها الطرفان أنها أصبحت من الماضي، دون نسيانها، لكي تبقى في الذاكرة، تمنع العودة إليها. وقد غمز رئيس «تكتّل الإصلاح والتغيير» من قناة مسؤولين لبنانيين وسوريين كانوا ممسكين بالوضع اللبناني، أنهم كانوا وراء انتكاسة العلاقات، بسبب الإرتباكات والتجاوزات التي حصلت، وتسببت بارتفاع وتيرة التوتر الذي تحوّل إلى اشتباكات ومعارك عسكرية، وهو كان يقصد المرحلة التي كان الملف اللبناني بيد نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام وشريكيه فيه رئيس الأركان العماد حكمت الشهابي ورئيس جهاز الأمن والإستطلاع العميد غازي كنعان، ومن كان يؤازرهم في لبنان.فتلك الفترة انتهت، وبدأ عهد جديد من التعاون، بعد أن خرجت سوريا من لبنان، وقد سبق للعماد عون، أن كرر أنه مع أفضل العلاقات معها، عندما تسحب قواتها. وقد التزم بما عمل له، وقاتل من أجله، ولم يرفع شعارات اسقاط النظام السوري، ولا احتلال سوريا، ولا استخدام المحكمة الدولية باغتيال الرئيس رفيق الحريري للإنتقام من الرئيس الأسد، كما فعل أقطاب «41 آذار» وعلى رأسهم النائب وليد جنبلاط، الذي جاهر علناً أنه ذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية، يطلب رأس النظام في سوريا، فجوبه بكلام صريح من وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ومسؤولين أميركيين آخرين، بأن المطلوب تغيير سلوكه وليس تغييره.فالعماد ميشال عون افترق عن قوى «14 آذار» في النظرة إلى العلاقة مع سوريا، كما لفهم سلاح المقاومة، وقد توصّل مع «حزب الله» إلى ورقة تفاهم حول السلاح ومسائل أخرى، وهذا ما لم يقبل به «ثوار الأرز»، الذين التزموا أمام الإدارة الأميركية، بنزع السلاح من المقاومة، إذا لم يتم بالحوار، فبالحرب التي شنّتها اسرائيل على المقاومة ولبنان، ولم تتمكّن من أن تدمّر المقاومة أو تنهي سلاحها الذي تحوّل إلى قوة للبنان، وحقق انتصاراً على الجيش الإسرائيلي، وهزمه بعد عدوان مدمّر دام 33 يوماً.فوقوف رئيس «التيار الوطني الحر» إلى جانب المقاومة، وحماية سلاحها، واحتضان جمهورها في أثناء الحرب، كان تأشيرة مروره إلى سوريا، التي وضعت ثقتها برجل يفي بتعهداته، ويلتزم بتحالفاته، ويقرن قوله بالفعل، فلم يطعن المقاومة، وراهن عليها أنها ستنتصر، بالرغم من كل التهديدات التي تلقاها، واتخاذ اسرائيل قراراً بقصف مقر عون في الرابية، إلا أنه استمر في تشكيل غطاء سياسي وشعبي للمقاومة، وهذا ما شكّل غضباً عليه، من قبل الإدارة الأميركية وحلفائها، وكذلك من الفريق الحاكم في لبنان، وبدأ الحديث عن تحوّل عون إلى المحور السوري-الإيراني، وقامت حملة ضده، على أنه تخلّى عن مبادئه في السيادة والإستقلال والقرار الحر، وهو يتقرّب من «حزب الله» ليؤمن له الوصول لرئاسة الجمهورية، إضافةً إلى ما قيل عنه أنه يتلقى مساعدات مالية وغير ذلك.كل هذه الحملة، لم تؤثر على خيارات عون السياسية، فهو رأى في المقاومة قوة للبنان، يجب أن تتكامل مع الجيش اللبناني في استراتيجية دفاعية، كما اعتبر سوريا الجار الذي لا يمكن إزاحته بواقع الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الإقتصادية والإجتماعية والروابط التي تجمع عائلات وأبناء البلدين الشقيقين، وقد رسم استراتيجيته السياسية، على هاتين القاعدتين وهما متباعدتين عن قوى «14 آذار»، فتمّ تخوينه، وبأنه يخالف «المزاج الشعبي المسيحي» بتوجّهاته، ويعمل ضد قناعات تياره السياسي وانصاره، فهو خاض «حرب تحرير» ضد سوريا، فلا يمكنه إعطاءها صك براءة بالذهاب إليها، دون أن تعتذر منه ومن اللبنانيين، كما لا يجوز أن تهدر نضالات قوى سياسية وحزبية لبنانية، اخرجت سوريا من لبنان، فيأتي عون لإدخالها مرة جديدة إليه من الباب المسيحي، فكان رد عون على هذه الأقوال والمزاعم، بأنه كان ينتظر من لبنانيين أساؤا إليه وشاركوا مع مسؤولين سوريين في اقتلاعه من لبنان، وهو لم يذهب إلى سوريا لطلب دخولها إلى لبنان، كما فعل غيره وهو كان يستذكر مرحلة منتصف السبعينات مع بداية الحرب الأهلية، عندما ذهب وفد من «الجبهة اللبنانية» ضمّ الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل، يطلب من الرئيس حافظ الأسد ارسال قوات سورية إلى لبنان، لحماية المسيحيين من تقدّم قوى الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية باتجاه المناطق الشرقية من أعالي المتن وكسروان، ولبّى الرئيس السوري نداء هؤلاء، بعد أن استعان رئيس الجمهورية آنذاك المرحوم سليمان فرنجية رسمياً، بسوريا للتدخّل بقواتها لوقف حمام الدم بين اللبنانيين، وقد حظي طلبه موافقة دولية، وقرار عربي اتخذته الجامعة العربية.فهذا الدخول السوري حكمته ظروف داخلية وخارجية، كما أن خروج القوات السورية، فرضته أيضاً تطورات عربية واقليمية ودولية، وصدور االقرار 1559، لكن كيف تمّ التعامل مع الإنسحاب السوري، الذي أراده عون أن يكون نقطة انطلاق لترميم العلاقة بين البلدين، وهو ما ترجمه فعلياً، وقد تقدمباقتراح على طاولة الحوار في مجلس النواب، أن يذهب وفد منها إلى سوريا، لإستعادة العلاقة، لكن جنبلاط رفض هذا الإقتراح، وانضم إليه الحريري وجعجع، فيما تريّث الرئيس أمين الجميل في إعطاء جواب، لأنه لم يقطع خطوط التواصل مع القيادة السورية، وقد كشف مؤخراً أنه تلقّى دعوة لزيارتها، كما تلقى دعوة أخرى لزيارة ايران.وكان العماد عون جريئاً عندما قبِل دعوة القيادة السورية التي حملها إليه وزير الخارجية وليد المعلم، وقرر تلبيتها بعد الإنتخابات الرئاسية كي لا تفسّر على أنه يزورها لتدعمه في الدخول إلى رئاسة الجمهورية التي كان مرشحاً لها، ويلقى دعم المعارضة، وفضّل أن تحصل قبل الإنتخابات النيابية بسبعة أشهر، كي لا تحسب على أنه تلقى الدعم منها، حيث وضعها بعض أطراف «14 آذار» في خانة تلبية رغباته في الإنتخابات، والطلب من حلفاء سوريا، بتسهيل مهمته في تشكيل الللوائح، وهذا أمر يناقض ما أعلنه هؤلاء أنفسهم من أن زيارته إلى سوريا، ستفقده شعبيته، وقد سخر عون من هذا الكلام، وأعلن أنه يقدم ما يخسره إلى خصومه، حيث بيّنت استطلاعات الرأي أن اللبنانيين عموماّ والمسيحيين خصوصاً، مع إعادة العلاقات بين سوريا ولبنان، وتنقيتها من الشوائب، وإجراء مراجعة لها، وقد ذهب رئيس «التيار الوطني الحر» إليها من أجل هذه الغاية، وأهمية ذهابه هو إلى دمشق أنه كان خصماً لها وأكثر المطالبين بخروج جيشها، وقد خاض معارك ضدها، وهو من ينطبق عليه إجراء مصارحة ومصالحة مع قيادتها، وهذا ما حصل فعلياً، في اللقاء الذي دام ساعتين بينه وبين الرئيس الأسد، واتفقا على أن العلاقات تمر عبر الدولة ومؤسساتها، وان هذه الزيارة ليست بديلاً لها. ولا هي على نقيض ما اتفق عليه مع رئيس الجمهورية حول أسس العلاقات التي تحكمها معاهدة أخوة وتعاون وتنسيق واتفاقات تمت برعاية المجلس الأعلى اللبناني-السوري، وقد زار الرئيس سليمان في قصر بعبدا لاطلاعه على نتائج زيارته ولقاءته مع الرئيس الاسد، والتي وضعها في خدمة الدولة ومؤسساتها.فزيارة عون مكملة للقمة التي جمعت الرئيسين اللبناني والسوري، وتمّ فيها تطبيع العلاقات الرسمية، من خلال الزيارات التي قام بها وزير الداخلية زياد بارود، وقائد الجيش العماد جان قهوجي، والإجتماعات التي يحضرها وزراء من البلدين في إطار الجامعة العربية أو في الزيارة التي يستعد لها وزير الدفاع الياس المر الذي رفض تأخيرها، لأن الظروف الأمنية تفرض حصولها، حتى لو لم يتم تبادل السفراء، وهو بذلك غطّى زيارة قائد الجيش الذي قامت حملة ضده من قبل فريق «14 آذار» لأنه التقى الرئيس الأسد، وأعاد التأكيد على التنسيق مع الجيش السوري في التدريب والتسليح.فالعماد عون أعاد تطبيع العلاقات شعبياً، خلال برنامج زيارته، فذهب إلى الأحياء الشعبية، والأماكن الدينية المسيحية والإسلامية، واختلط بالشعب السوري، لينهي حالة من العداء بين اللبنانيين والسوريين، الذي تمّ الترويج له من قبل اطراف لبنانية، أثناء الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان، نتيجة الممارسات الخاطئة من قبل الطرفين، واستغلال هذا الوجود من الجانبين لمصالح سياسية وفئوية ومادية.فالشعب السوري الذي حمل في السابق صور الرئيس المصري جمال عبد الناصر في الخمسينات، وصور الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي وما زال، رفع صور العماد عون وعلم «التيار الوطني الحر»، وكانت كلها عفوية، تقديراً للدور الذي أدّاه دفاعاً عن المقاومة، ثم لأنه رفض أن يتقوقع لبنان، وينعزل عن محيطه الطبيعي، فأعلن انتماء المسيحيين المشرقي، وهذا هو واقعهم الجغرافي والتاريخي والديني، فنسب الكنيسة المارونية إلى السريانية، وذهب إلى قبر القديس مارون الذي أسس الطائفة المارونية، ومن حلب كان مهد المارونية، كما كانت سوريا مهد المسيحية التي زارها البابا يوحنا بولس الثاني، ومشى على الطريق الذي سار عليه يوحنا الرسول مبشراً بالمسيحية في أعوامها الأولى.لقد أخرج الجنرال عون المسيحيين من الإنعزال الذي حاول بعض «المتلبننين» وضعهم فيه، وعدم تفاعلهم مع محيطهم المشرقي، وهم ينتمون إلى بطريركيات انطاكية مشرقية، وكل البطاركة بما فيهم بطريرك الموارنة يسمون بطاركة انطاكية وسائر المشرق، حيث توجد عدة أبرشيات مارونية في سوريا، زارها عون للتأكيد على الترابط بين البلدين، إذ أعلن أنه لم ير المسافة بعيدة بين حلب وجبل لبنان.ففي زيارته حقق العماد عون نتائج إيجابية، فهو كسر الحاجز النفسي الذي كان قائماً بين فئة من اللبنانيين وسوريا، وركّز على حاجة البلدين لبعضهما البعض اقتصادياً، إذ أن سوريا متنفّس لبنان إلى الجوار العربي، وهي بهذا المعنى يجب أن تكون العلاقة معها مميزة، كما أنه حصل على تجديد لما سبق وأكده الرئيس السوري الأسد، أن لا عودة للقوات السورية إلى لبنان، حتى لو كان الجنة، وقد قطع بذلك كل الإدعاءات التي تحدثت عن عودة سورية إلى لبنان مستغلة الحشود العسكرية السورية على الحدود، التي أُبلغت بها قيادة الجيش اللبناني وهي لمنع تسلل عناصر إرهابية، تبيّن أنها تقوم بأعمال تفجير في البلدين.أما ما حاول خصوم عون مطالبته بتحقيقه، لجهة ترسيم الحدود في مزارع شبعا، ومعرفة مصير المفقودين والمعتقلين، وتبادل السفراء، فهذه المسائل التي يقر رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» بضرورة تنفيذها، إلا لأنه يترك أمرها إلى الدولتين، والمؤسسات المختصة، حيث تمّ إنجاز الموضوع الدبلوماسي، وقد ينتهي التمثيل خلال نهاية العام، أو مطلع العام المقبل، وأن المفقودين، تقوم لجان مشتركة بالتدقيق بلوائحهم منذ سنوات للكشف عن مصيرهم. أما المعتقلين فقد أفرجت سوريا عنهم على دفعات منذ سنوات، وقد وعدت بإطلاق سراح المسجونين سياسياً وجنائياً وقد أبلغت وزير العدل الللبناني ابراهيم نجار بذلك.لذلك لم يذهب عون إلى سوريا، ليحصد سياسياً أو انتخابياً، بل ذهب إليها، لإستكمال التطبيع الرسمي، بالتطبيع الشعبي، وهو لهذه الغاية استقبل بهذا التكريم الذي يليق بالخصوم الشرفاء، الذين لم ينقلبوا على مواقفهم وتعهداتهم، كما فعل بعض الحلفاء الذين صنعتهم سوريا، فانقلبوا عليها كما فعل جنبلاط وهذا ما يردده دائماً المسؤولون في سوريا، ويقولون أن طريقه إلى دمشق مزروعة بالشوك… لأن ما فعلته له سوريا، لم تفعله مع أي حليف لها في لبنان، سوى المقاومة، وعندما كان يرى الظرف مؤاتياً والتحولات متوفرة، كان ينقلب عليها، ويطعن بها، ويريد لها السوء.
Leave a Reply