كان التصور سائداً على مدى التاريخ الماضي بأن الذين منحهم الله نعمة العلم والدراية والفهم والأدب والحكمة، لا بد أن تظهر آثار هذه النعمة عليهم جميعاً، وما دامت هذه نعمة تميّز بها هذا الانسان دون غيره من البشر، إذا لا بد أن يعم خيرها على الناس من حوله، إذا استعملت في طريق الخير والدفاع عن حقوق الانسان أين كانت تلك الحقوق، وإلا تصبح نقمة على الناس وذكر لنا التاريخ صورة لعالم كانت الخيرات تنزل على الناس بسببه فلما غلبه الشيطان صار سبباً لدمار قومه ومجتمعه يقول عنه الله سبحانه {وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه أياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} ألأعراف أيه 175، ولم تعد تلك القصص مجرد عبرة من التاريخ، ونحن نسمع ونشاهد في زماننا من العلماء ليسوا أقل سوء من الماضين على مجتمعاتهم، ولكن رحمة ربك منعت نزول العذاب ببركة رسول الأسلام محمد عليه وآله صلوات الله، يقول تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} الأنفال آية 33.ولقد خلد التاريخ الحديث صوراً تنحني لها هامات المنتهكة حقوقهم على أيدي المستبدين والظالمين وكان سلاحهم المعرفة والأدب، والصورة التي نقتبسها في هذا المقال تمثل الدور الكبير للأدباء والكتّاب الذين ضحوا بحياتهم من أجل الإنسانية وهم ربما لا يعتقدون ما وراء التضحية وإنما ضمائرهم الحية أملت عليهم القيام بالواجب، لنعيش لحظاات مع ما كتبته المحررة، لورين مونسون، في موقع «أميركا دوت كوم» مؤكدةً إن الأعمال «الأدبية يمكن أن تسخّر كأسلحة ضد الإستبداد والفساد» وقد أحصت الكاتبة عددا من القضايا التي برهنت على كفاح الأدباء المناضلين من أجل العدالة ومحاربة الظلم، وذكرت في تقريرها في «واشنطن بوست» من الأدباء الروائي الروسي ألكسندر سولجينيتسين الذي حاز على جائزة نوبل في الأدب للعام 1970، وقد فضحت أعماله نظام معسكرات السخرية السوفياتية 1918-1984 صورة مقززة للقمع الحكومي وهو موضوع ردده فنانون منشقون في جميع أنحاء المعمورة.اما الشاعرة الروسية ناتاليا غوربانيفسكايا التي تنشط في مجال الحقوق المدنية فقد كانت واحدة من بين ثمانية أشخاص تظاهروا في الساحة الحمراء بموسكو يوم 25 آب (أغسطس) 1968، احتجاجا على الغزو الروسي لتشكوسلوفاكيا. ولأنها كانت قد أنجبت طفلا لم تحاكم الأديبة كسائر المتظاهرين الا أنها كتبت تقريرا عن المحاكمة عنونتها «الظهيرة» نشر في الخارج تحت عنوان «الساحة الحمراء وقت الظهيرة». واعتقلت غوربانيفسكايا في كانون الأول (ديسمبر) 1969، وأودعت السجن في مؤسسة سوفياتية للمرضى النفسيين حتى شباط (فبراير) 1972. وفي العام 1975 غادرت الإتحاد السوفياتي واستقرت في باريس.أما الروائية وكاتبة المقالات والشاعرة جوليا ألفاريز المولودة في جمهورية الدومينيك والتي فرت عائلتها الى الولايات المتحدة وهي في سن العاشرة، فقد تم التنويه بروايتها «في وقت الفراشات» التي نشرت في العام 1995. وهي قصة مستوحاة من حدث حقيقي طال ثلاث شقيقات اغتالهن عملاء لنظام رافائيل تروهييو الديكتاتوري الذي حكم بلاد الكاتبة في القرن الماضي.وهناك الروائي وكاتب المسرحيات والشاعر النيجيري وولي سوينكا الذي كان ناقدا صريحا للعديد من حكومات نيجيريا وللنظم الإستبدادية في العالم أجمع، وقد تركز قدر كبير من كتاباته على ما وصفه «بالجزمة القمعية بصرف النظر عن لون القدم التي تنتعلها». ودفع سوينكا ثمنا شخصيا باهظا لنشاطه. فقد أعتقل في العام 1967 خلال الحرب الأهلية النيجيرية ووضع في احتجاز منفرد بسبب محاولاته التوسط لتحقيق السلام بين الفئات المتقاتلة. ولدى الإفراج عنه بعد 22 شهرا وبعد أن استأثر أسره باهتمام دولي غادر نيجيريا واختار النفي الطوعي. وتلقى سوينكا الذي يعتبر أشهر كاتب مسرحيات إفريقي جائزة نوبل في الأدب في العام 1986 وهو أول إفريقي من جنوب الصحراء الكبرى يحوز على ذلك الشرف.أما سيزلو ميلوش (1911-2004) الذي يعتبر أحد أعظم الشعراء وكتاب النثر في بولندا فقد حارب الرقابة التي فرضتها حكومة بلاده الشيوعية خلال سنوات الحرب الباردة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وقد وصف مؤلفه «العقل الأسير» الذي صدر في 3591 العام والذي يصف كيف مارس النظام الستاليني ضغوطا على الكتاب والعلماء كي يمتثلوا الى النظام الحاكم في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، بإحدى اروع الدراسات حول سلوك المفكرين في ظل نظام قمعي.وقد منح ميلوش الذي هاجر من بولندا الى الولايات المتحدة في العام 1960 واكتسب الجنسية الأميركية 1970 في العام وجائزة نوبل في الأدب في العام 1980. واختطت سيرة عمل الشاعر الروسي جوزف برودسكي (1940-1996) مسارا مشابها. فقد طرد برودسكي، وهو شاعر وكاتب مقالات، من الإتحاد السوفياتي 1972 في العام بعد أن رفض تطويع كتاباته للمستلزمات العقائدية للحزب الشيوعي. وانتقل الى الولايات المتحدة واصبح مواطنا في العام 1977 وحاز على جائزة نوبل في الأدب للعام 1987. وفي العام 1991 أصبح برودسكي الشاعر الرسمي للولايات المتحدة.ومن الأصوات الأكثر حماسة على الصعيد الأدبي صوت الكاتبة الفيليبينية نيوتوتشكا روسكا التي تقيم حاليا في نيويورك. وقد كانت روسكا أسيرة سياسية في الفيليبين خلال فترة النظام الدكتاتوري للرئيس الراحل فيرديناند ماركوس. وقد أبدت روسكا، التي أكسبتها قصصها القصيرة ورواياتها وأعمالها الأخرى غير القصصية، لقب «السيدة الأولى للأدب الفيليبيني»، اهتماما خاصا بالقمع الذي يمارس ضد النساء واستغلال الجنس. وكثيرا ما تتكلم عن قضايا ساخنة مثل السياحة الجنسية والإتجار بالجنس وتجارة الزيجات المتسرعة بواسطة البريد والعنف الذي يمارس ضد النساء. وهؤلاء الكتاب وعدد لا يحصى غيرهم بينوا أن الفن الأدبي يمكن أن يكون سلاحا ماضيا ضد الإستبداد والفساد والظلم. وكتاب الضمير هؤلاء، بتسليطهم الضوء على شجون العالم وآلامه والأنظمة السياسية التي تجترح هذه المظالم. إلى هنا ينتهي كلام الكاتبة لورين، ونحن في الوقت الذي نقدر هذا الجهد ونشارك الكاتبة في المواقف الإنسانية لؤلئك الذين واجهوا أعنف المستبدين وحققوا شيئاً لشعوبهم ومجتمعاتهم، نقول للكاتبة ماذا لو فتح ملف عالمنا العربي الذي لم يرد في تقريرك أي مثل من صور التضحيات للأدباء والمفكرين والكتّاب في الخمسة العقود الماضية وحجم التنكيل والتعذيب والقتل والنفي والتشريد لكن لم يكن الناتج إلا مزيداً من التضحيات ومزيداً من كبت الحريات وسحق كرامة الانسان وانتهاك لحقوقه، ورفضاً لأي شكل من أشكال الديمقراطية والإقرار بمشاركة المجتمع المدني في تقرير مصيره، والسائد هو حكم الفرد الواحد وربط مصير الأمة بقرارته، وإذا فكّر الأديب والكاتب أن يقول رايه أصبح خائنا لوطنه وقيادته.
Leave a Reply