تمتمت العاملة الاميركية المتقدمة في السن، بكلمات قليلة، رداً على مجاملة روتينية اسديتها لها وانا اقف بجانب ماكينة التصوير انتظاراً لدوري في استنساخ بعض الاوراق: «كيف حالك اليوم» سألتها، وحالي تحتاج الى من يطمئن عنها في ختام يوم عمل مرهق في دائرة على تماس مباشر مع اوجاع الناس اليومية. لا يتحدث الاميركيون في السياسة غالباً وثمة عبارة مقتضبة كثيرة الترداد على ألسنتهم عندما يعلقون على احداث بارزة: «هذه كلها ألاعيب سياسة
«انني على بعد 40 يوماً من مغادرة هذا المكان» اجابت.ثم استطردت بنبرة تفيض منها المرارة: «هذه الاوضاع لم ارها في حياتي.. اميركا لم تكن يوماً بهذه الحال من السوء والغموض .. المرة الوحيدة التي سمعت بها عن احوال مشابهة كانت على لسان امي حين كنت طفلة». كانت العاملة الاميركية تشير الى حقبة «الكساد الكبير» التي عاشتها اميركا في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم.لم يتبق من الاميركيين سوى قلة قليلة ممن عايشوا في مقتبل اعمارهم اوضاعاً اقتصادية سيئة شبيهة بهذه التي تشل «ارض الفرص» وتظللها بالقلق والضياع وانعدام الاطمئنان الى المصير.
فعندما تصير السياسة مدعاة للتفكير بأسباب انعدام فرص العمل والحصول على لقمة الخبز وحبة الدواء، تصير هماً لرجل الشارع الذي فقد مهنته وللطالب الذي يفني السنوات في مقاعد التحصيل العلمي املاً في الفوز بوظيفة لائقة وعيش مريح، وللمرأة التي تكافح بمفردها من اجل اعالة اطفال لم يعرفوا الاب إلا لماماً.والسياسة بالنسبة الى الاميركيين ظلت تعني ضمناً السياسة الاقتصادية والاجتماعية والصحية. فالاميركيون لم يكونوا غالباً معنيين بسياسة بلادهم الخارجية، إلا حين تورطهم بتدخلات عسكرية وحروب تعرض ابناءهم للمخاطر.ثمة نسبة لا بأس بها من الاميركيين لا تلتفت اين تقع منطقة الشرق الاوسط، مثلاً، إلا عندما تحتدم الصراعات وتتخذ منحىً دموياً وتدميرياً صارخاً. وأقبل الاميركيون على استكناه الاسلام بعد هجمات 11 ايلول وهو لم يكن معروفاً لدى غالبيتهم العظمى. يتعاطى الاميركيون السياسة بالاكراه. و«الصحوة» التي دبت في مفاصل حياتهم حول سياسات بلدهم يعود الفضل فيها لأسوأ ادارة في التاريخ الاميركي على الاطلاق، ارسلت عشرات الالوف من ابنائهم وبناتهم الى غزو دولة عربية لم يثبت لها اي علاقة بارهاب 11 ايلول.ظل الاميركيون يشعرون بالامان وراء الحاجز الهائل الذي يفصل قارتهم عن العالم، حتى عبره بن لادن وحطم اسطورة الحاجز الطبيعي.في الاشهر القليلة الماضية استيقظ الاميركيون على كابوس ضاغط احدث لدى غالبيتهم صدمة عنيفة: نظام مالي ظنوه راسخاً كجبل، تهاوى امام اعينهم في ساعات او ايام. ادركوا متأخرين ان غيابهم عن «السياسة» استحضر كل شياطينها وادخلها في دورة حياتهم اليومية فقلبها رأساً على عقب. لم يستوعبوا الصدمة للوهلة الاولى وظلت ادارتهم السياسية والمالية تُخفي حقيقة الركود المخيف الذي دخلوا في نفقه المظلم حتى اسابيع قليلة مضت، حين اعلن المسؤولون المعنيون «رسمياً» ان البلاد دخلت بالفعل حالة ركود واعطوها مفعولاً رجعياً من باب «الامانة» لمدة عام واحدة.الصحوة الاميركية الشعبية التي تجلت بانتخاب باراك اوباما بدت اقرب الى الثورة، وعملية المحاسبة ارتدت طابع الفعل السياسي الذي عاقب احد الحزبين الرئيسين اللذين يحكمان البلاد منذ عقود طويلة، ووضع الحزب الآخر على سكة التجربة. لم يعد الامر مجرد استبدال جمهوري بديموقراطي في البيت الابيض. وباراك اوباما وفوزه الكبير تجسيد لمخاوف شعبية حقيقية من مجهول بدأت علاماته المقلقة ترتسم في افق الاميركي العادي ليل نهار. لم يكن امراً عابراً وغير ذي دلالة ان يستطيع المرشح الشاب جمع مئة مليون دولار في شهر واحد ابان حملته الانتخابية، جاء معظمه من التبرعات «الوضيعة» لمئات ألوف الاميركيين الذين استشعروا الخطر المحدق بأنماط حياتهم ومستوياتها وتهديده لأسس استقرارها.قد لا يعي الاميركيون انهم يخوضون غمار تغيير جذري يعيد صياغة الممارسة السياسية الداخلية والخارجية من اساسها، إلا بمقدار ما تتعمق الازمة القائمة وتستشري مفاعيلها الكارثية في جسد اقتصادهم العليل. بالأمس القريب تهيّب نائب الرئيس المنتخب جو بايدن الموقف واطلق كلاماً مقلقاً عن مدى عمق الازمة القائمة في محاولة لاستباق اية آمال مفرطة بعلاجات سريعة للامراض المالية والاقتصادية المزمنة، وبان من خلال كلامه الفارق بين شعارات الوصول الى سدة السلطة و«المواقف المسؤولة» التي تمليها مهابة الوصول الى اعلى قمة المسؤولية في ظل ظروف بالغة الدقة والتعقيد.لم يتخل الاميركيون عن نظامهم الرأسمالي، ولم يقرأوا في كتب الاشتراكية عندما قرروا احداث التغيير في اكثر المعارك الرئاسية ضراوة وأغلاها كلفة في التاريخ الاميركي. فداحة الازمة اخرجت جهابذة النظام الرأسمالي من ابراجهم المحصنة فنهلوا على عجل من ماء «الاشتراكية» لاطفاء حرائق هددت اسس وجودهم. فها هي الحكومة الفدرالية تضع اول رجل لها في ارض القطاع الخاص واقتصاد السوق، مستولية بأموال دافعي الضرائب على حصص وأسهم في المؤسسات والشركات التي تسابقت الى اعتابها طلباً للنجدة. وها هي ايضاً تعرض على شركات صناعة السيارات «تأميماً» جزئياً لأرصدتها مقابل رمي طوق النجاة لها في خضم تخبط مراكبها في لجّة الكارثة التي تحيق بها.لقد غاب الاميركيون عن «السياسة» بمفهومها المخادع والمخاتل لكنها حضرت اليهم واخذت تنهش اعصابهم وتمضغ لحومهم وتلغ في دمائهم كوحش افلت من اسره. خيضت حروب بإسم ديموقراطيتهم واستعبدت انفس باسم حريتهم الاقتصادية وهاهم يفيقون على اخطر واكبر عملية نصب في التاريخ كانوا ضحيتها، وكلفتهم جنى الاعمار في البيوت التي اقتنوها وعوّلوا على ارصدتها فتبخرت، وفي الوظائف التي بنوا عليها احلامهم فطارت. للمرة الاولى يشعر الاميركيون بثقل وطأة السياسة عليهم. لكن ما يخفف من هذه الوطأة هو امتلاكهم لوسائل التغيير ودينامية مؤسساتهم الديموقراطية العريقة، وقضاؤهم المستقل الذي شرع في محاسبة المرتكبين، في عملية قد تطول.لقد اهمل الاميركيون «السياسة» حتى دقت ابوابهم حاملة اخطر ازمة في تاريخهم المعاصر، ولا مناص امامهم من خوضها رغم زهدهم بـ«ألاعيبها» وتعقيداتها.
Leave a Reply