لم تكن إسرائيل يوماً بحاجة إلى ذرائع لشن هجومها البربري الواسع على قطاع غزة أو غيره في اي أرض عربية. فإسرائيل كيان قائم على العدوان والتوسع اللذين يتوسلان المجازر سبيلاً للسيطرة والبقاء، من مجزرة دير ياسين وقبية وعشرات المجازر الأخرى التي نفذتها عصابات الحركة الصهيونية في فلسطين مع بدايات نشوء الكيان الصهيوني مروراً ببحر البقر المصرية وقانا الأولى والثانية اللبنانية.فمع كل حرب أو عدوان عسكري تشنه إسرائيل ترتكب، إلى جانب ما ترتكبه، من فظاعات، مجزرة على الأقل بحق المدنيين، خصوصاً الأطفال والنساء. تعتمد إسرائيل منهج ترويع موجه ضد المدنيين لتحقيق أهداف اعتداءاتها بأسرع فترة زمنية. هكذا هجرت أكثر من نصف مليون فلسطيني في «حرب قيام الدولة» عام 1948 وهكذا استمرت في الحروب التي خاضتها على كل الجبهات العربية.والمجزرة التي ارتكبها إسرائيل في سياق حربها الدموية المجنونة على مليون ونصف مليون فلسطيني محاصرين في قطاع غزة منذ 14 يوماً ، بحق الأطفال والنساء في مدرسة تابعة لوكالة غوث للاجئين في مخيم جباليا لم تخرج عن إطار «فلسفتها» القائمة على ترويع وإرهاب المدنيين ليكفيها شر القتال ودفع الأثمان البشرية في معارك طويلة ومكلفة.في عدوان تموز 2006 على لبنان حاولت إسرائيل تطبق هذا النهج أملاً بالحصول على نتائج سريعة، لكن صمود وثبات المقاومة اللبنانية على مدى 33 يوماً اضطرها إلى الانكفاء وهي تجرجر أذيال الخيبة، ولتدخل بعدها في مرحلة «تأمل» على هدي وصايا «لجنة فينوغراد». كانت مجزرة قانا الثانية سمةمكررة لسلوك إسرائيلي ثابت في محاولة تسريع هزيمة العدو عبر إغراق بيئته المدنية بالدم.لا تخرج مجزرة مدرسة الأونرا في جباليا عن هذا السياق. والفارق الوحيد، ربما، أن إسرائيل في عدوانها على غزة هذه المرة تبدو متحررة من أعباء التبرير والشرح كونها تشن حرباً بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن جهات دولية وعربية (للأسف) ترى في حركة «حماس» عائقاً أمام رؤية أميركية إسرائيلية – عربية – بعض فلسطينية لحل ينهي القضية الفلسطينية وفق تلك الرؤية التي لا توفر الحد الأدنى للحقوق الفلسطينية في دولة وعودة الاجئين من أجل التفرغ لقضية أخرى هي النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة.بعض المعلقين الإسرائيليين قالوا صراحة إن «قصف الجيش الإسرائيلي لمدرسة الأونروا وسقوط أكثر من 40 ضحية لم يكن مدعاة للدهشة» في نظر المتتبعين ليوميات الحرب التي تشن على القطاع المتمرد على إرادة دولية وعربية ويجب إعادته إلى «بيت الطاعة».ففي مقال كتبه عاموس هاريل وآفي إيساتشاروف في صحيفة هآرتز نقلاً عن ضباط إسرائيليين تلميحهم إلى أن قصف المدرسة كام متعمداً لأن صدمة حرب تموز 2006 جعلت الجيش الإسرائيلي يدرك أن وقوع خسائر كبيرة في صفوفه سيؤثر سلباً في دعم الرأي العام للحرب وسيحد بالتالي من قدرة الجيش على تحقيق أهدافه.الكاتبان رأيا أنه لا يحتمل أن تسفر حادثة (مجزرة) الثلاثاء بما سقط فيها من قتلى مدنيين عن وقف فوري لإطلاق النار وأن هذه الحادثة (المجزرة) من شأنها فقط أن تعزز الضغط الدولي لوقف إطلاق النار، مما يعني أن «الحادثة» ستقرب نهاية الحرب.ولكن المعلقين الإسرائيليين يريان في لمحة ذات مغزى غير خاف إن «حرب لبنان الثانية (تموز 2006) استمرت بضعة أسابيع بعد حادثة مشابهة في «قانا».، لم تكن مجزرة قانا الثانية، إذا، سوى وسيلة لتسريع إنهاء الحرب، مثلما هي مجزرة مدرسة الأونروا. لا حاجة لتحقيقات دولية «مستقلة» من قبل الأمم المتحدة والأمين العام بان كي مون يعرف أن مصيره لن يكون أفضل من مصير سلفه بطرس غالي خلال مجزرة قانا الأولى، بعدما حمل لإسرائيل المسؤولية عن المجزرة المرتكبة في مجمع للقوات الدولية في البلدة اللبنانية المنكوبة. حتى أن الوفد العربي المشترك الذي تجشم عناء السفر إلى نيويورك لم يثر مسألة المجزرة المرتكبة تحت علم الأمم المتحدة، كمدخل للضغط من أجل الحصول على وقف لإطلاق النار ضمن مشروع قرار عربي قدمته ليبيا، وظل صرخة في وادي المجلس المكبل بالفيتو الأميركي الجاهز.والحاصل أن مأساة الغزوايين تتضاعف وتكبر مع مرور كل يوم على المداولات العربية والدولية ونقاشات شروط وقف إطلاق النار.والغزاويون الذين لم يعودوا قادرين على العثور على مأوى آمن لأطفالهم باتوا أسرى لهذه المفاوضات والمداولات المعقدة التي يطير لأجلها الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء التركي إلى دول المنطقة ويعودان دون تحقيق أي تقدم.ثمة إصرار إسرائيلي على إخضاع حكام غزة من حركة حماس وحلفائها من باقي الفصائل الفلسطينية لشروط جديدة للتهدئة يقابله إصرار من الحركة الإسلامية على رفض العودة إلى وضع الحصار السابق وبينهما إصرار عربي (باستثناء سوريا) على استعادة حماس من «الحضن الإيراني» وإعادة قطاع غزة إلى كنف ما يصفونه بالشرعية الفلسطينية الممثلة بمنظمة التحرير وسلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس.مشكلة إسرائيل في هذا النوع من الحروب أنها تعرف كيف تبدأها ولكنها لا تعرف كيف تنهيها. هي كانت ولا تزال تظن أن إسالة دماء المدنيين وتدمير البنية التحتية للمجتمع والدولة المعادية كافيين لجعل الطرف الآخر يرفع راية الاستسلام. لم تقتنع إسرائيل بعد، أن مواجهتها للحركات الإسلامية سواء في فلسطين أو في لبنان هي غير مواجهة جيوش عربية تقليدية دأبت على هزيمتها في أيام معدودة والحصول على وقف إطلاق نار يلبي شروطها السياسية والأمنية.والمفارقة المؤلمة أن ما يسمى «المجتمع الدولي» ينحو دائماً إلى محاولة إخراج الدولة المعتدية من ورطتها السياسية وإخراج حلول لها تلبي أهداف عدوانها دون النظر إلى معاناة المدنيين مهما طال أمد الحرب.
يختصر الموقفان الأميركي والأوربي هذا السلوك الذي يتكرر للمرة الثانية بعد حرب تموز 2006. تعطى إسرائيل «الوقت الكافي» لسفك المزيد من الدماء بغية تليين موقف الطرف المعتدى عليه. هكذا يفشل مجلس الأمن في إصدار قرار بوقف إطلاق النار رغم المذبحة المتمادية في غزة التي حصدت حتى كتابة هذه السطور نحو 800 شهيد وأكثر من 3300 جريح.وحيث تستمر المقاومة في غزة في رفض الخضوع للشروط الإسرائيلية، تصعد إسرائيل من وتيرة توحش حملتها الدموية لتطال المؤسسات والمنظمات الدولية، فتقصف سيارات الإسعاف التابعة للصليب الأحمر الدولي وتمنع أطقم الإنقاذ من الوصول إلى الجرحى ولا من يحتج أو يرفع الصوت في مجلس الأمن.إنها الحرب القذرة التي تقودها دولة «ديمقراطية الغرب» الوحيدة في الشرق الأوسط، بلا مساءلة أو محاسبة.مأساة قطاع غزة وأهله المليون والنصف مليون أنه يقع خارج مدى الرؤية الدولية ومعظم العربية الرسمية لاجتراح حلول سلمية لأزمة الصراع في المنطقة، وان إخضاعه بالدم والنار هو الخيار الذي أوكل تنفيذه إلى آلة القتل والتدمير الإسرائيلية.لا يشفع الدم الفلطيني المسال بغزراة في حمل العالم «المتمدن» على رفع الصوت ووقف المذبحة، فتقرر حكومة إسرائيل مواصلتها «لأن الأهداف لم تتحقق بعد»، وتعطى المزيد من الوقت لتحقيقها.والدم الفلسطيني على غزارته لا يحرك مشاعر الحكام العرب والمسلمين فيبقى سفراء «السلام الإسرائيلي» في مكاتبهم في قلب العواصم العربية (شكراً لموريتانيا على استدعاء سفيرها في تل أبيب للتشاور) فيما تتحرك نخوة هوغو تشافيز الأميركي الجنوبي فيطرد السفير الإسرائيلي من بلاده احتجاجاً على المذبحة المتواصلة في غزة. يخرج رئيس الوزراء التركي أردوغان على شعبه وبرلمانه في رسالة تأنيب قاسية لإسرائيل مفنداً حججها وذرائعها وواصفاً ما ترتكبه بالجريمة الأخلاقية والإنسانية، بينما يعتصم حكام العرب إما بالصمت أو باللجوء إلى تبرير عجزهم بمناشدات عقيمة يعرفون مسبقاً أنها فقاقيع صابون لا تصل حتى إلى شعوبهم الغاضبة في شوارع المدن العربية.في ظل هذا العجز العربي والتواطؤ الدولي، يخشى أن تتمادى إسرائيل في عدوانها الوحشي ليتحول إلى حرب إبادة جماعية لشعب بأكمله في القطاع المنكوب، أو في أفضل الأحوال تحويله إلى أرض محروقة وتشريد سكانه إلى منافٍ جديدة في الجوار العربي.لم تعد قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية، والمنطقة الشرق أوسطية مقبلة على صراع جديد مركزه الخليج العربي (أو الفارسي لا فرق)، ولهذا حديث آخر.إنها حرب ذات أفق مفتوح على كل الاحتمالات. كان الله بعون غزة وأهلها!!..
Leave a Reply