«نحنا والقمر جيران» أغنية لفيروز تذكرتها عندما طلّ القمر قريباً من نافذتي، وكنت أغنيها للقمر الذي كان يقف فوق بيتنا في قريتنا القريبة من رام لله في ذلك الزمن الضبابي البعيد. فكرت في بساطة كلمات الأغنية التي تتطرق إلى تفاصيل دقيقة في علاقة جدلية مع القمر. تفاصيل صغيرة لا ينتبه لها المرء، وليس سوى فيروز التي تُـلفت أنظارنا إلى روعة الأشياء حولنا وتحدثنا عنها بأغنية. رحت أمعن في شدة لمعان القمر، وللحظات.. طلّت عليّ وجوه أطفال غزة بنفس الخوف الذي رأيته على شاشة التلفاز. بدوا كأنهم ينظرون لي. بل يتوسلون لي. لم أحتمل نظراتهم. أنني لا أستطيع أن أفعل شيئا سوى الكتابة، وهذه بدت شيئاً سخيفاً مقابل دمعة في عين طفل منهم. وقررت ألا أكتب قصة أي منهم حتى لا أكون من الراقصين على جراح الآخرين. فهذه العادة سأبطلها في أقرب وقت. فهم هناك يموتون جوعى. يُـقتلون بأبشع وسائل القتل وأنا أفكر بكلمات أبرّد بها قلبي. أنني أخجل من نفسي وأنا أجلس على كرسي مكتبي في غرفتي الدافئة، وأمارس عادتي في الكتابة كأني أتظاهر أن العالم في الخارج بخير. لكن عذراً أحبائي سأتحدث عن رحلتي الوحيدة إليكم، لا لشيء.. إلا لأنبش حزني وأقول قصتي وقصة البحر وبعضاً من قصصكم. عندما زرت غزة وهي المرة الأولى وربما الأخيرة كان ذلك في عام 1998، بدت غزة آنذاك وكأنها مدينة خارجة من حرب طاحنة. طرقات بدائية وأرصفة مهشمة وأشجار شاحبة ومتعبة، كأنك أمام خريف متواصل. بحر يشتاق إلى أهله وأطفال بوجوه معفرة، ينظرون إلى الغريب ولديهم ألف سؤال حول العالم الذي يطل من خلف الحواجز والبحر. فما أجمل الغرباء في غزة! لديهم قصص مشوقة حول العالم والأعياد والمواسم. ففي غزة ليس هناك سوى موسم واحد… موسم الخريف الدامي، مع أن الناس يعشقون الربيع ويشتاقون إلى أمسيات صيفية دون خوف وقصف. وللبحر قصة أخرى. فهو الحاضر بينهم لكنه اللئيم أيضاً الذي يأخذ الأشياء الجميلة إلى الجهة الأخرى من الكون بينما يتركهم في بؤسهم وحسراتهم، ويقف متخاذلاً يحدق بهم. البحر يدير لهم ظهره. البحر شرفة على العالم.. نافذة مقفلة على الكون، وسفن محصّنة تحرث الموج وتلقي بكتل القهر والموت على مراكب الصيادين الفقيرة، وعيون الأطفال الذين ينتظرون عودة آبائهم راكبين الموج أحياء أو أمواتاً. عندما تنظر في عيون الناس لا شك أنك ستشعر بالخجل من نظرات الأهالي الذين سيعرفون بأنك «غريب»، وقد يظنون بأنك جئت تفضح أناتهم ودموعهم بينما الأمر ليس كذلك، لأنك تعاني نفس الألم ونفس حرقة القلب مع أنك تعيش في مكان آخر من الوطن. عاودني الشعور بالتطفل على حياتهم وخصوصياتهم، وعاهدت نفسي مرة أخرى ألا أكون كالصحفي الذي يتطلع إلى خبر يكون بمثابة السبق الصحفي، ليحقق به مركزاً مهنياً وإسماً لا يمحى من ذاكرة الناس. لا أريد مجداً لنفسي. كل ما أردته هو إرسال بطاقة محبة لكل أصدقائنا الطيبين في غزة، والناس الذين لم نعرف أسماءهم وأحببناهم. لكل من تمنوا لو يستطيعون أن يعودوا معنا إلى رام لله لشدة ما يتوقون إلى تحطيم الحواجز، ويكتشفوا العالم حتى لو كان الوطن الصغير حولهم.ودعنا أصدقاءنا عند الحاجز الأخير على أطراف غزة، ودارت بنا السيارة متوجهة إلى رام لله. وبعد هذه السنين تغير الكثير، والمدن التي كانت تبدوأنها خارجة من حرب طاحنة أو زلزال مدمر في الزمن البعيد، ها هي تغرق في كل ذلك، والبحر، الشاهد الوحيد، قد صار جداراً آخر، حوتاً يرصد لهو الأطفال وأفراحهم الصغيرة عند الشاطئ. صار حصناً للأعداء. لم يكن العقل يستوعب ما توالى على غزة من ضربات وهي الوحيدة في وجعها وأنينها، فكيف يستوعب العقل ما تتلقاه من حرب شرسة وهي تعشق الحياة أكثر من الموت. غزة غارقة في عتمة وحرب وبرد ودماء، وأنا هنا لا أدري شيئاً عن الناس الطيبين الذين لم أعرف أسماءهم وظلوا يلوحون لنا بأيديهم عند الحاجز الأخير.
Leave a Reply