لو كان محمود درويش ما زال حياً، لنظم قصيدة عصماء في مذابح غزة، يرثي فيها مدينة عربية باسلة، هي آخر الحصون الفلسطينية للمقاومة، بل يرثي فيها أمة عربية، ولكانت أم القصائد وآخرها، بدل أن تكون آخر قصائده هي «لاعب النرد» يقولها ثم يرحل. لو كان ما زال درويش حياً يرزق لقال أن الأمة الفلسطينية ترقص بين الشهداء وبينهم مآذن البنفسج بدلاً من شهيدين بينهما مئذنة واحدة.كيف لهذا الشاعر ابن هذه القضية وفارسها أن يترجل عن صهوة حصانه ويذهب، من أين لنا شاعر تخلد في قصائده زهور فلسطينية تموت على الأغصان، تلف في الأكفان وتوارى الثرى، ودموع أمهات ثكالى تجمدت في الأجفان، وسيدة من فرط حزنها على استشهاد ابنين لها في لحظة واحدة، تقسم أنها ستقاتل الجيش الإسرائيلي إذا هو دخل غزة، بهذه البنادق الذكرى.من أين لنا رسام مثل ناجي العلي، أن يمسك بريشته ليعري أمة عارية أصلاً من خلال رسوم كاريكاتورية، فلو كان حياً هو الآخر لجعل من مصر أماً رؤوماً يرضع الفلسطينيون من ثدييها، بدل أن تجلدهم بالسوط وهم يتعرضون لأقسى محنة في تاريخهم الحديث، وتسد الأبواب في وجوههم وتمنعهم حتى من الصراخ والاستغاثة في زمن الشدة، وعويلهم يصل إلى أذنيها لكنها تصمها، وكأن الفلسطينيين في هذا الزمن الرديء أضحوا أيتاماً على مأدبة لئام.من يحدث أجيالنا القادمة عن هذه المأساة في غزة، غير شاعر مبدع أو روائي موهوب أو مؤرخ صادق؟ من يقول لهم أن مدينة محاصرة من الأعداء من جهات ثلاث، رابعها طابور خامس ومتواطئ، تكاتفت عليها المؤامرات وضربتها الطائرات والبوارج والدبابات، وظلت عصية على الاستسلام، غير رسام أو موسيقار أو صانع فنون؟ألم يشاهد أبناؤنا كيف حدثت المأساة الفلسطينية الأولى في نكبة 1948 من خلال المسلسل السوري «التغريبة الفلسطينية» وآخر هو «الاجتياح» يصور تفاصيل المقاومة الفلسطينية واللبنانية الباسلة لأحد الاجتياحات الإسرائيلية للجنوب اللبناني وكلاهما بالمناسبة حصلا على جوائز في مهرجانات عربية وعالمية، ولم تسمح الفضائيات العربية بعرضهما على الشاشة، لا داعي هنا للخوض في الأسباب.كبيرة هي المأساة في غزة الصامدة وكبيرة هي الأحزان والأشجان، لا يجب أن تمضي هذه المجازر وتصبح ذكرى نحتفي سنوياً بها بإضاءة شموع وصلوات وإلقاء كلمات، ولا يجب أن يكون دور العربي فيها شاهداً، كأنها تجري في أميركا اللاتينية أو في شرق آسيا، فهؤلاء الذين يموتون في غزة نيابة عنا ودفاعاً عن شرفنا وكرامتنا ومستقبل أجيالنا، يستحقون منا الكثير الكثير، غير التباكي والنواح والتبرعات والصدقات، هؤلاء أكرم منا جميعاً ويستحقون تخليدهم، فهم ومن يقف معهم أبطال حقيقيون، لا أقل من أن يكونوا كذلك في تاريخنا وثقافتنا وآدابنا وفنوننا، فاين هم المؤرخون والمثقفون والأدباء وصناع الفنون؟فليسجل العرب في تاريخهم وآدابهم وفنونهم أن افلسطينيين في حرب غزة ذبح أطفالهم ونساءهم كالخراف، أمام سمع وبصر اثنين وعشرين جيشاً عربياً، ولم يتجرأ أحد على التهديد بدخول الحرب لنجدتهم غير سيد المقاومة اللبنانية!..
Leave a Reply