لم يكن الرئيس باراك أوباما بحاجة إلى أداء القسم مرتين: الأولى خلال حفل التنصيب التاريخي ظهر الثلاثاء الماضي، والثانية في غرفة الخرائط في البيت الأبيض التي عاد وانتقل إليها كبير قضاة المحكمة العليا جون روبرتس مساء اليوم التالي لتأكيد صيغة القسم التي اعتراها بعض الضعف عندما تعثر القاضي في ترتيب الكلمات فأوقع نفسه والرئيس في إحراج «دستوري» لم يتوانَ بعض معلقي وسائل الإعلام المحافظة عن التشكيك، على الأثر، فيما إذا كان باراك أوباما هو بالفعل الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة!..كانت جلسة القسم الثانية في البيت الأبيض لزوم ما لا يلزم لتأكيد حقيقة لا يزال كثر غير قادرين على هضمها وهي أن باراك أوباما الأميركي الأسود ابن المهاجر الإفريقي من كينيا في مطلع سيتينات القرن الماضي، قد صار بالفعل والواقع أول رئيس أسود للولايات المتحدة وها هو، بيده اليسرى، يسطر طلائع سلسلة من القرارات الرئاسية التنفيذية، أولها إغلاق معتقل غوانتانامو خلال سنة وتجميد رواتب كبار موظفي البيت الأبيض ممن تزيد رواتبهم عن المئة ألف دولار سنوياً «لأن العائلات الأميركية تعاني من أوضاع صعبة وتشد الأحزمة..»، وفرض قيود جديدة على عمل اللوبيات (مؤسسات الضغط).حدث التنصيب جاء استثنائياً، انسجاماً مع استثنائية التغيير المدوي الذي أطلقه الناخبون الأميركيون في نوفمبر الماضي. لم يحدث أن احتشد أكثر من مليوني شخص في المسافة الفاصلة بين مبنى الكابيتول الذي شيده العبيد والبيت الأبيض الذي لم يكتسب اسمه فقط من لونه الخارجي، بل على الأرجح كانت التسمية ترمز إلى تكريس اللون العرقي لحكام هذه البلاد منذ أن غادرها المستعمر الأوروبي في أواخر القرن السابع عشر. كان الحشد المليوني (بالإذن من الإعلام اللبناني) بمثابة الشاهد على صحة الخيار والجهة اللذين إتخذتهما أميركا على وقع أسوأ أزمات تعيشها في تاريخها على الإطلاق.كانت لحظة النطق بالقسم، على شكليتها وتعثر أدائها، تضع أول نقطة لخط انطلاقة جديدة في الحياة السياسية الأميركية المعاصرة، انطلاقة تغاير الزيف المتكلس على الصفحة الديموقراطية العريقة لأعظم قوة على وجه الكون وتعلن عن مصالحة تاريخية بين جبروت القوة العسكرية وقوة القيم والمبادئ التي لولاها لما أمكن لأميركا أن تتربع على هذا العرش.كادت أميركا، على أيدي نخب سياسية حاكمة، أن تنسى نفسها وهي تخاطب «عالم الضعفاء» بمنطق القوة العسكرية والاسترهان الاقتصادي وبمنطق الاستعلاء والإملاء البعيد عن الروح الحقيقية للدستور الأميركي وقيم الحرية والعدالة التي يحتضنها بين دفتيه.«أربعة وأربعون رئيساً أميركياً أدّوا القسم الرئاسي حتى الآن وتليت كلماته وسط موجات من الازدهار ومياه السلام الراكدة لكن يحدث أحياناً أن يتلى هذا القسم تحت إحتشاد الغيوم ووسط العواصف الغاضبة.. في هذه اللحظات، كانت أميركا تتجاوز التحديات، ليس فقط بمهارة ورؤية أؤلئك القابعين في المراكز العليا، بل لأننا، نحن الشعب، بقينا مؤمنين بقيم الأسلاف. ومخلصين لوثائق تأسيسنا الأصلية..»، بهذه الكلمات خاطب الرئيس باراك أوباما الأميركيين القلقين على مستقبل اقتصادهم ورفاههم مؤكداً لهم استمرار هذا الإرث من التصميم والتحدي مع هذا الجيل من الأميركيين، ومعيداً التأكيد «أن عظمة أمتنا لم تكن يوماً هبة مجانية، بل يجب تحقيقها بالجهد والعمل..».يدرك الرئيس أوباما أن كل كلمة خاطب بها الأميركيين كان يجب أن تصدر عن حس بالمسؤولية الجسيمة والتاريخية الملقاة على عاتقه، وهو القادم إلى البيت الأبيض من رحم تغيير جذري أراده الأميركيون أن يسود، ويعيد أميركا بلداً للأمل والأحلام، بعدما طعنتها النخب السياسية الحاكمة طيلة نصف القرن المنصرم، بمِدى المصالح الشخصية والرغبات الجامحة بالتسلط والهيمنة على باقي شعوب الأرض بمنطق القوة المجرد من القيم والمبادئ التي وضعها المؤسسون الأوائل، مستفيدين من التجارب الاستعمارية الأوروبية وجاعلين أميركا ملاذاً للهاربين من القمع الديني والسياسي والاقتصادي، الذي مارسته قوى الاستعمار القديم في بلدان «العالم الثالث» المتخلف أو النامي (تأدباً).لم تصعد أميركا إلى قمة القوة بعد الحربين الكونيتين الأولى والثانية اللتين استنزفتا قوة الاستعمار الأوروبي وثرواته وطاقاته وأسالتا دماء عشرات الملايين من البشر إلا لأنها ظلت وفية للقيم التي أسست عليها، والتي بدأت تذوي منذ أن تواطأت قوى الاستعمار الأوروبي الرابح في الحرب الكونية الثانية على النظرة الأميركية الوفية لمبادئ الحرية والمساواة والأخوة التي أفرزتها الثورة الفرنسية وألهمت العالم الأوروبي و«العالم الأميركي الجديد» على وقع أحداثها.في خطابه إلى الأميركيين والعالم أعاد الرئيس باراك أوباما التذكير بأن منطق القوة المجردة من أية مبادئ لا يخدم للأمن قضية: «نحن نرفض زيف الاختيار بين الأمن والمُثُل، وآباؤنا المؤسسون الذين واجهوا تحديات من الصعب وصفها سطروا شرعة لتوكيد حكم القانون وحقوق البشر، اكتسبت رسوخها بدماء الأجيال.. هذه القيم لا تزال تضيء العالم ولن نتنازل عنها لمصلحة عاجلة.. لذا أقول لكل الشعوب والحكومات الذين يشاهدوننا اليوم، من أكبر العواصم إلى أصغر قرية (في كينيا) شهدت مسقط رأس والدي: اعلموا أن أميركا هي صديقة لكل شعب ولكل رجل وامرأة وطفل يسعون وراء مستقبل من السلام والكرامة، وإننا جاهزون لتولي القيادة مرة جديدة..».إننا أمام «أميركا مختلفة» رسمها لنا خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس الرابع والأربعون لأميركا باراك حسين أوباما. لكن أين سيقع هذا الخطاب في العالم الذي أدهشته إرادة التغيير الأميركي الجديد الذي صاغه باراك أوباما بـ «شاعرية سياسية» لم نقع عليها منذ عهدنا بمبادئ وودرو ويلسون؟لقد كانت الرسالة التي وجهها أوباما إلى «العالم الإسلامي» تحديداً، واضحة ولا تقبل اللبس: «إننا نسعى إلى سلوك جديد يرتكز على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل». لغة جديدة تحتاج إلى من يقابلها في العالمين العربي والإسلامي بخطاب وسلوك جديدين، متخففين هذه المرة من عقدة «الإمبريالية الأميركية» والخوف من «وباء» الديموقراطية الذي أخافوا شعوبهم من مساوئها واستهدافاتها و«مؤامراتها» على «القضية القومية» أولاً، وعلى الدين الإسلامي أخيراً. «نحن أمة مسيحين ومسلمين، يهود وهندوس وملحدين، منصهرين بكل اللغات والثقافات من أقصى زوايا الأرض..»، أكد الرئيس أوباما على غنى التنوع الأميركي، في سابقة نادرة الحصول ومن رئيس أصر على تلاوة اسمه الثلاثي: باراك حسين أوباما في خطاب القسم.ذهب باراك أوباما أبعد من ذلك في تحذير «زعماء حول العالم» يسعون إلى اختلاق الأزمات، او تعليق أمراض مجتمعاتهم على شماعة الغرب: «اعلموا، (خاطبهم أوباما بفائق الصراحة) أن شعوبكم سوف تحكم عليكم بما تبنونه، لا بما تهدمونه.. أؤلئك الذين يقبضون على السلطة بوسائل الفساد والخداع وبإسكات المعارضين، يجب أن يعلموا، أنهم على الضفة الخاطئة من التاريخ، ولكننا سوف لن نتردد في مد أيدينا لهم إذا أبدوا استعداداً لإرخاء قبضاتهم».لم يسبق للعالم العربي والإسلامي أن استمع إلى خطاب أميركي بهذه المرونة والجرأة والصراحة والاستعداد لفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقة مع أميركا. إنها فرصة تاريخية قد لا تتكرر وعلى هذا العالم المأزوم بانقساماته، والغارق في أزماته، ودماء شعوبه، وآخرها مأساة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة التي هزت وجدان الإنسانية ووجدت لها صدى لدى الرئيس الأميركي في دعوته إلى إنهاء معاناة الأبرياء ورفع الحصار عنهم.. على هذا العالم العربي خصوصاً أن ينهي انقساماته ويلاقي هذا الفجر الأميركي الواعد مع باراك أوباما بالخروج من ليله السياسي الطويل وأن يرخي حكامه قبضاتهم عن أعناق شعوبهم ويفسحوا أمامهم سبل إنتاج قيادات جديدة تمثل تطلعاتهم وأحلامهم في الحرية والسلام والعدالة.أليس مؤلماً لتلك الشعوب العربية والمسلمة أن ترى أميركا بكل أعراقها ودياناتها ولغاتها تفخر في تقديم أول رئيس أسود لقيادتها وقيادة العالم ويؤدي القسم كرئيس رابع وأربعين لأقوى دولة في العالم فيما رؤساؤنا وملوكنا وأمراؤنا مسمّرون إلى عروشهم منذ عشرات السنين؟أليس ظلماً بحق الشعوب التي خرجت إلى شوارع العواصم والمدن بالملايين انتصاراً للدم الفلسطيني المسفوح في غزة، ان يبقى حكام العرب عاجزين عن صياغة بيان «توافقي» في قمة «جمعتهم» في الكويت بعدما فرقتهم في الدوحة؟!باراك أوباما يعد بأمل لكنه لن يصنعه وحده.. الرئيس الأميركي لن يكون عربياً ولا «مسلماً» وليس المطلوب إلا أن يكون أميركياً بالقيم والمبادئ التي أغنت خطابه الأول الى الأميركيين وباقي شعوب العالم.باراك حسين أوباما أقسم يمين الولاء لأميركا وشعبها. متى يقسم حكام العرب والمسلمين أيمان الولاء لبلدانهم وشعوبهم؟
Leave a Reply