قوى «14 آذار» قلقة من التكامل بين المؤسسة العسكرية والمقاومة والتنسيق مع سوريا«ضباط الحقبة الأمنية السابقة» يثيرون الهواجس لدى الأكثرية
كان متوقعاً أن يهاجم النائب وليد جنبلاط رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، دون أن يسميه مباشرة، ومعه قيادة الجيش، على خلفية الاستراتيجية الدفاعية وعنوانها «تكامل الجيش والمقاومة»، التي طرحها الرئيس سليمان في جلسة افتتاح جلسات الحوار حول هذا الموضوع، وأكدها في كلمته أثناء زيارة لوزارة الدفاع، إضافة الى استعادة التنسيق العسكري والأمني بين الجيشين اللبناني والسوري، وفق الاتفاقات المعقودة بينهما تطبيقا لمعاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين الدولتين.
إلا أن ما جعل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يوجه انتقاداته للجيش، كان التشكيلات التي أجرتها قيادة الجيش، وأتت بضباط الى مديرية المخابرات وفروعها، ويعتبرهم جنبلاط أنهم من بقايا النظام الامني اللبناني-السوري المشترك، وكانوا على علاقة مع المدير العام السابق للأمن العام اللواء الركن جميل السيد، وعملوا معه في المخابرات وفي الأمن العام، وان هذا الأخير من المشتبه فيهم في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان من اركان نظام الرئيس اميل لحود، ونسج علاقات قوية مع ضباط من المخابرات السورية اثناء وجودهم في لبنان.كل هذه الهواجس يضج بها «زعيم المختارة»، خوفاً من أن يعود النظام الأمني السابق للإمساك بالوضع اللبناني سياسياً وأمنياً، وهو يعيش مرحلة من القلق، بعدما تبين له أن القيادة السورية قوية، ولم تتزعزع، وان الرئيس بشار الأسد باق في الحكم، وسوريا دولة محورية في المنطقة، وهي رغم خروجها من لبنان عسكرياً، إلا انها ما زالت فاعلة فيه، من خلال حلفائها الذين لم يضعفوا أبداً، بل قلبوا المعادلة الداخلية لمصلحتهم، وأعادوا التوازن بعد انتفاضة 7 أيار 2008 واتفاق الدوحة، وانتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتعيين العماد جان قهوجي قائداً للجيش.فهذه التغييرات يقر بها جنبلاط، ويعترف بأن مشروعه هُزم، وان قوى المعارضة تعمل للفوز بالاكثرية في الانتخابات، فتفقد فريقه السياسي في «14 آذار» رئاسة الحكومة والاكثرية فيها، وتعيد النفود السوري الى الداخل اللبناني حسب زعمه.لذلك يفتش عن مخرج لمأزقه السياسي، فأثار موضوع التنصت من زاوية أن ضابطا من الجيش هو العقيد دانيال فارس انتدب الى وزارة الاتصالات لمراقبة خطوط الهاتف، وتبين ان مهمته هي فقط لكشف تهريب التخابر الدولي، وقصد جنبلاط من إثارته هذا الموضوع، ليدخل الى قرارات المؤسسة العسكرية وتوجهها، وقد رأى أنها لا تعمل وفق توجهات قوى «14 آذار»، فهي أبقت على ضباط «الحقبة السورية» وأعادتهم الى مواقع أمنية حساسة في مديرية المخابرات، وعززت الضباط الذين يتعاطفون سياسياً مع «التيار الوطني الحر» برئاسة العماد ميشال عون، وكذلك مع «حزب الله» وحركة «أمل» وأطراف في المعارضة، بالرغم من ان المواقع الدرزية القيادية داخل الجيش هي في عهده ضباط يدينون بالولاء «للجنبلاطية»، ويسميهم هو، سواء في رئاسة الاركان أو الامن القومي العسكري أو قادة ألوية وأفواج، إضافة الى التدخل في تطويع طلاب في المدرسة الحربية، بحيث يحتكر كل هذه المراكز، ويحرم خصومه السياسيين داخل الطائفة الدرزية منها، ويقوم بهذا العمل منذ سنوات بعيدة، بحيث أضحى العدد الاكبر من العسكريين الدروز هم من «الفريق الجنبلاطي» أو الحزب التقدمي الاشتراكي.لذلك فإن توجيه الانتقادات للجيش على قاعدة وجود ضباط من «المرحلة الأمنية السابقة»، أو يخصون أحزاباً في المعارضة، لم تعد تنفع، لأن التركيبة الطائفية للبنان تفرض مثل هذا الواقع، وقد حاولت المؤسسة العسكرية جاهدة إبعاد التدخلات السياسية عنها، ولا سيما بعد اتفاق الطائف، وقد نجح العماد اميل لحود في منع تدخل السياسيين بقضايا الجيش، ومنع العسكريين من اللجوء الى السياسيين فأرسى قاعدة الكفاءة في امتحانات الدخول الى المدرسة الحربية، وكان يجري التشكيلات بعيداً عن المحاصصة السياسية، وقد أثارت عليه هذه الاجراءات الزعماء السياسيين، وفي طليعتهم جنبلاط الذي شن أكثر من هجوم على المؤسسة العسكرية فطالب بخفض عديدها، وطلب البحث في رواتب ضباطها وعسكرييها والامتيازات التي يحصلون عليها، وحرّض وزير المال فؤاد السنيورة على ترشيد الإنفاق في هذه المؤسسة، واصطدم بقيادتها، التي صمدت بوجه الحملة الجنبلاطية عليها، التي انضم اليها رئيس الحكومة رفيق الحريري، الذي اتهم مخابرات الجيش بأنها تعمل ضده، وتعرقل مشاريعه، وتشجع معارضيه عليها، وتحرك الشارع عبر الاتحاد العمالي ضده.والتقى الحريري وجنبلاط على الهجوم المركز على الجيش وقيادته، وقاطع الأول احتفالات عيد الجيش ومناسباته، واشتكى من ان قائده اميل لحود لا يزوره، ولا يطلعه على وضع المؤسسة العسكرية، كما ان مخابرات الجيش لا ترسل اليه التقارير الامنية المهمة، وسعى الى خلق تناقض بينها وبين أجهزة أمنية اخرى، وبدأ كل جهاز يعمل مستقلاً عن الآخر، ويجمع المعلومات الخاصة منه، ويقدمها الى قوى سياسية يدين بعض قادة هذه الأجهزة لها.وكان الصدام بين الحريري وقيادة الجيش عندما طلب منها أن ترسل الجيش الى الجنوب اثر عدوان تموز 1993، في العملية الاسرائيلية التي سميت «تصفية الحساب»، فرفض قائد الجيش آنذاك العماد اميل لحود تنفيذ قرار مجلس الوزراء، لأنه لا يقبل الاصطدام بالمقاومة، بل التنسيق معها، وقد فجر موقفه خلافاً وتباعداً، بين الرجلين، ودفع لحود ثمنه في تأخير انتخابه رئيساً للجمهورية ثلاث سنوات، وتم التمديد للرئيس الياس الهراوي عام 1995، وفي العام 1998 انتخب لحود رئيساً للجمهورية، بمعارضة جنبلاط الذي رفع شعار انه يرفض وصول عسكري الى الحكم، لكن تبين في ما بعد أن المسألة لها علاقة بأن لحود يرفض نهج الحريري وسياسته الادارية والمالية، ولا يوافقه على تحجيم دور المقاومة، ولا يقبل أن يضع يده على مؤسسات الدولة، وهو ما مارسه في عهد الهراوي بدعم من الثلاثي السوري عبد الحليم خدام، وحكمت الشهابي وغازي كنعان.
وهكذا كانت المؤسسة العسكرية «فشة خلق» لجنبلاط، اذا لم يستجب لطلباته الخاصة، وهو ما فعله اثناء قيادة الرئيس سليمان للجيش، فكان دائماً يهاجمه، وعلى خلفية مكاسب سياسية فئوية لها علاقة بتشكيلات وتعيينات داخل الجيش لضباط محسوبين عليه، فوقع خلاف مع قيادة الجيش التي رفضت تعيين رئيس للاركان اختاره جنبلاط وعينت اللواء فادي ابو شقرا.وفي الهجوم المفاجئ على الجيش، فإن جنبلاط أغاظه أن يعين العماد قهوجي قائداً له، وهو من بلدة بعدران الشوفية، وعلى بعد أمتار من المختارة، دون أن يكون له رأي بذلك، وهو كان يسعى الى أن يكون العميد جورج خوري مدير المخابرات قائداً للجيش، لكن لم يحصل على ذلك، بالرغم من ان خوري ضابط جيد في الجيش، لكن رئيس الجمهورية وقع اختياره على قهوجي الذي هو ضابط ميداني ومشهود له بالكفاءة العسكرية والأخلاقية، إلا ان جنبلاط لم يرق له هذا التعيين، فانتظر مناسبة زيارة قائد الجيش الى سوريا واستقبال الرئيس بشار الأسد له، حتى قامت قيامته عليه مع فريق «14 آذار»، وبدأ التشكيك بالمؤسسة العسكرية، التي أكدت على التنسيق مع الجيش السوري الذي كان له الدور في دعم الجيش في معركة مخيم نهر البارد ضد «فتح الإسلام»، وقد أزعج هذا الكلام أطراف «14 آذار» التي شنت هجوماً على الجيش، بعدما كانت أشادت ببطولاته في المعارك التي سقط له فيها 170 شهيداً ومئات من الجرحى، كما لم يوفره نواب «تيار المستقبل» عندما اعتقل عناصر تابعة له في باب التبانة، كانت ترمي القنابل وتطلق النار باتجاه جبل محسن في طرابلس، كما لم يعجبهم بيان قيادة الجيش عن «الصواريخ المشبوهة» التي وجدت في الجنوب أخيراً ولم يحمل المسؤولية الى «حزب الله».وتنظر قوى «14 آذار» الى الجيش نظرة عدم ثقة، لأنها لم تتمكن من تغيير عقيدته القتالية ضد العدو الاسرائيلي، وأصرت قيادته الجديدة على التكامل مع المقاومة والتنسيق مع الجيش السوري، فرفض جنبلاط هذا التوجه الذي لا يخدم سياسات «ثورة الأرز» في إقفال جبهة الجنوب مع العدو وتسريح عناصر المقاومة وجمع سلاحها ووضعه في المستودعات، حيث أعلن الحزب التقدمي الاشتراكي أنه لا يريد أن يرسل مندوبه العسكري المقدم شريف فياض الى لجنة الخبراء المنبثقة عن طاولة الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية، لأنه يرفض مقولة «تكامل الجيش والمقاومة»، بل تذويب المقاومة بالجيش من خلال استيعاب عناصر منها فيه، على طريقة دمج الميليشيات بعد اتفاق الطائف وتطبيقه على المقاومة، والعودة الى اتفاق الهدنة مع اسرائيل.لقد أفصح رئيس «اللقاء الديموقراطي»، عمّا يريده صراحة، وهو نزع سلاح المقاومة الذي صدر في قرار مجلس الأمن الدولي 1559 في 2 أيلول عام 2004، وهو ما زال على موقفه هذا، وهو منع وجود السلاح بيد «حزب الله»، لأنه يعتبره سلاحاً ايرانياً وسورياً، وبالتالي فإن مبادئ «ثورة الأرز» لم تتحقق مع بقاء هذا السلاح الذي يريد أن يستغل وجوده ليكون شعاره السياسي والتعبوي للانتخابات النيابية المقبلة، وهو بدأ في هجومه على الجيش لتعطيل دوره، وإقصائه عن العملية الانتخابية كضابط للأمن، والنظر اليه كطرف، حيث يخشى من خسارته للاكثرية في هذه الانتخابات، وهو يحاول أن يحصل على تنازلات من قيادة الجيش وتعيين ضباط له، يشرفون على الأمن في المناطق التي لن يفوز فيها مع فريقه.فالجيش الذي وقف على مسافة واحدة من الجميع، منذ أبع سنوات وفي أزمات سياسية وأمنية خطيرة مر فيها لبنان، لن تنجرّ قيادته الى المهاترات السياسية، وهي ملتزمة بالثوابت الوطنية التي حددها الدستور واتفاق الطائف، ولن تفرط بها، وهو ما أكد عليه العماد قهوجي في كل كلماته التوجيهية، بأن الجيش هو للبنان، وان ولاء العسكريين هو للمؤسسة لا للزعامات السياسية.فاللعب على «فرط» الجيش وشرذمته، لم يعد بيد السياسيين، لان اللبنانيين شعروا بحاجتهم اليه، في أثناء الحوادث الأمنية التي كانت تقع بين القوى السياسية، فلم يكن أمامهم سوى المؤسسة العسكرية، يلجأون اليها لمنع انزلاقهم نحو حرب أهلية، كانت تقترب منهم، لكنها تعود فتبتعد، لان المقاومة رفضت أن تغرق في هذه الحرب، ولأن المعارضة لا تريدها، وهي احتكمت الى الاعتصام المدني لا الى السلاح.
Leave a Reply