غزة تغرق في أحزانها وتلملم جراحها وتطوي صفحة من البؤس سببها العدوان الغادر، ترك أهلها هائمين على وجوههم ينتظرون غداً أكثر إشراقاً وأقل إيلاماً، لا أقل من أن يقف معهم وإلى جانبهم أخوة لهم في التراب، فلسطينيون مثلهم جمعهم الكثير وفرقهم القليل، فهؤلاء وإن كانوا داخل الخط الأخضر أو في مخيمات الشتات أو في مدن الضفة الغربية وأريافها، أو كانوا في المهاجر الأوروبية والأميركية، تجمعهم هوية واحدة ونضال مشترك ومقدسات مسيحية وإسلامية ترزح تحت نير الاحتلال.
عيب على فلسطيني من هؤلاء أن يقول حتى بينه وبين نفسه: ما لي وما يجري في غزة من مجازر ومحارق ينفذها الصهاينة ضد الغزوايين. لقد وقفت مع الغزاويين الشعوب العربية والشعوب الإسلامية وشعوب في أوروبا وأميركا اللاتينية، فكيف لا يقف معهم ويؤازرهم أخوة فلسطينيون؟ من هؤلاء جماعات مسيسة على غير النهج السائد في غزة، ومنهم على غير الدين وآخرون من طبقات اجتماعية موسرة، فيما شريحة منهم لا يعرفون عن فلسطين إلا اسمها، حملوا جنسيات دول أكثر رخاء ورغداً، فما لهم وما يجري لوطن عتيق يعتبرونه تراثاً منسياً.تلك صورة تجلت في الآونة الأخيرة أثناء الحرب على غزة وما سبقها من حصار وما تلاها من دمار، فالفلسطينيون في رام الله وأثناء القصف على مدن غزة ومخيماتها أضاءوا شموعاً على أرواح الضحايا وكأنهم يحيون ذكرى مضت عليها السنين ومواطنو هذه المدينة في ديترويت الكبرى والذين يمثلهم نادي رام الله في ميشيغن، وهو نادٍ عريق عمره نصف قرن أقاموا حفلاً الأسبوع الماضي في إحدى الكنائس بمدينة ليفونيا لمناسبة عيد الحب (فالنتاين) أكلوا فيه وشربوا ورقصوا وأهدوا فيه لأحبائهم الورود والمجوهرات، وربما كان من حقهم أن يفعلوا ذلك، لو كانوا قبلها أقاموا حفلاً خيرياً لجمع التبرعات للمنكوبين في غزة، يشترون به حبة دواء أو لقمة عيش أو قطرة ماء.رام الله ليست وحيدة في موقفها، فالاحتلال الإسرائيلي نجح على مدى ستين عاماً في تشتيت الفلسطينيين جغرافياً وديمغرافياً وعاطفياً، فمنذ الأيام الأولى لنكبة 1948 استطاع هذا الكيان أن يسلخ جزءاً من الشعب الفلسطيني هم الأقلية الدرزية فأغدق عليهم الأموال ومنحهم مواطنة كاملة وخدمات مميزة وأدخل أبناءهم في صفوف الجيش الإسرائيلي، مثلهم في ذلك مثل البدو في صحراء النقب، أقامت إسرائيل لهؤلاء ضواح راقية في عمق الصحراء وأبناؤهم يخدمون في الجيش وولاؤهم للكيان الصهيوني الغاصب.وفي نكسة عام 1967 استخدمت إسرائيل الأسلوب ذاته مع الفلسطينيين في مدينة القدس فمنحتهم الجنسية الإسرائيلية بما تحمله من ميزات، لكنها فشلت في تهويدهم وظلوا متمسكين بهويتهم الفلسطينية.إسرائيل تجلى نجاحها أخيراً في شطر الفلسطينيين إلى نصفين، وهذه المرة كان التشتيت سياسياً وعقائدياً، حتى أضحى جزء منهم يؤمن بالمقاومة طريقاً للتحرر، وهؤلاء هم أهل غزة المقام في ديارهم العزاء تلو العزاء، وآخرون على شاكلة أهل رام الله، رومانسيون حتى الثمالة، إذا حزنوا أضاءوا الشموع، وإن فرحوا احتفلوا بأعياد الحب، وربما لو قامت لهم دولة فلسطينية على جراح الثوار والأحرار يحتفلون بأعياد الفراشات وأعياد الكرز، كتلك التي يقيمها الأميركيون والشعوب الأوروبية المترفة.
Leave a Reply