أوباما يعمل بنصيحة بيلوسي: الحل فـي المنطقة يمر عبر دمشق
سوريا تبقى الأقوى مع رحيل صاحبي القرار ١٥٥٩ بوش وشيراك
انتصار المقاومة في لبنان وفلسطين فرض الحوار الأميركي والسعودي مع دمشق
بعد الاحتلال الاميركي للعراق في نيسان من العام ٢٠٠٣، حضر الى دمشق بعد حوالى الشهر، وزير الخارجية الاميركية كولن باول، ووضع شروطه على طاولة المسؤولين السوريين وغادر دون أن يناقش فيها، وكانت تتمحور حول فك ارتباط سوريا بالمقاومة في لبنان وفلسطين، وعدم تسهيل عملها في العراق، بضبط الحدود ومنع المتسللين اليه، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، وأعلنت الادارة الاميركية انها لن تفتح حواراً مع سوريا قبل أن تلبي هذه المطالب وتنفذها، وتغير سلوكها لجهة السير في المشروع الاميركي للمنطقة، والخروج من سياسة الممانعة والقبول بالانخراط في “الشرق الاوسط الجديد”.
وقررت أميركا برئاسة جورج بوش، وفي إدارتها “المحافظين الجدد”، انتهاج سياسة جديدة مع سوريا، مختلفة عن تلك التي اتبعت مع وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر الذي كان يجالس الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد ساعات في حوار بينهما، ومثله فعل من خلفه في وزارة الخارجية حتى جاءت وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت وقررت، ان تغير من هذه السياسة، واعتماد الحوار المشروط والمقنن، الى أن جاء عهد الرئيس بوش، وقرر بعد احتلال العراق، ووجود قواته على الحدود مع سوريا، انتهاج سياسة الإملاءات وفرض الشروط، والضغط على سوريا للاستجابة لها، وبدأت بسلسلة قرارات وإجراءات، من قانون محاسبة سوريا، الى حظر السفر اليها، وتشديد اجراءات التبادل التجاري معها، وكانت الذروة في القرار الفرنسي-الاميركي المشترك الذي صدر عن مجلس الامن وحمل الرقم ١٥٥٩ في ٢ ايلول ٢٠٠٤، والذي طالب سوريا بسحب قواتها من لبنان، وكانت هذه رسالة أميركية لمقايضة الوجود السوري في لبنان، بالتعاون مع القوات الاميركية في العراق، وطرد “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية من سوريا، ووقف إمداد “حزب الله” بالسلاح، والابتعاد عن ايران.
لم يرضخ الرئيس بشار الاسد لهذه الشروط، وكانت آخر زيارة قام بها الى دمشق مساعد وزير الدفاع الاميركي ريتشارد أرميتاج، في كانون الثاني من العام ٢٠٠٥، وسأل المسؤولين السوريين عن تلبية المطالب الاميركية، فكان ردهم ان سوريا لن تتخلى عن دعم المقاومة التي تختلف عن الارهاب، والتوصيف الاميركي لها، وان التعاون السوري في مكافحة الارهاب ومحاربته قد حصل، مع أكثر من دولة، وقد تضررت منه سوريا، التي سبق لها أن طالبت بعقد مؤتمر دولي لتحديد الارهاب وتمييزه عن المقاومة، لكن واشنطن لم تستجب للطلب السوري الذي تقدم به الرئيس حافظ الاسد منذ ثمانينيات القرن الماضي.
بقيت سوريا على ثوابتها الوطنية والقومية، ورفضت السير بالمخططات الأميركية للمنطقة، ودعت الى سحب قوات الاحتلال من العراق، الذي بدأ يفقد وحدته، ودخل باقتتال أهلي وفتن مذهبية وطائفية، وكان لهذا الموقف السوري من الاحتلال الاميركي لـ”بلاد الرافدين”، ثم من استمراره احتضان سوريا للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، أثره السلبي عند إدارة بوش التي قررت تطويع الرئيس بشار الاسد، والتهويل عليه بأن مصيره ومصير نظامه سيكونان كمصير نظام صدام حسين، وبدأ الضغط عليه من الساحة اللبنانية، التي تم تحريك قيادات فيها لمطالبة سوريا بإخراج قواتها من لبنان، وتصدّر الحملة البطريرك الماروني نصر الله صفير مع النائب وليد جنبلاط، الذي رأى تحولات في المنطقة بعد احتلال العراق، ستفرض تغييراً في سوريا التي كان نائب رئيسها عبد الحليم خدام يراهن على سقوط النظام، بتدبير شيء ضده، ومدّ خدام يد التعاون مع حلفائه في لبنان حيث كان يشجع كلاً من جنبلاط والرئيس رفيق الحريري على رفض طلبات الرئيس الاسد، وإبلاغهما انه ضعيف داخلياً، ولديه مشاكل وأزمات، ولا بدّ من العمل على إخراج قواته العسكرية وأجهزته الامنية من لبنان، وتحت الضغط السياسي والاعلامي والشعبي، إضافة الى التأييد الدولي لهذا التحرك، مما يساعد على زعزعة النظام السوري، وبالتالي رضوخ الاسد لشروط خدام وحلفائه بإعطائهم دوراً أكبر.
وقد برز واضحاً المخطط الأميركي-الفرنسي، بالضغط على سوريا، التي لم تليّن موقفها، فأيدت التمديد للرئيس اميل لحود من رئاسة الجمهورية، وأتت بحكومة برئاسة عمر كرامي، لمواجهة تداعيات القرار ١٥٥٩، الذي وُصف بأنه قرار فتنة، وهذا ما حصل، بتدبير اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لرفع منسوب الضغط على سوريا لسحب قواتها، وإخراج حلفائها من السلطة، ونقلها الى حلفاء اميركا في “ثورة الارز” التي أطلقها بوش، وبدأ اهتمامه بالوضع في لبنان يتقدم على العراق، وقرر ان تكون ساحته منصة لفرض شروطه على سوريا، التي صمدت بوجهه، وقررت سحب قواتها بعدما ظهرت المؤامرة عليها، وان الوضع العربي والاقليمي والدولي يعمل لغير مصلحتها، الى ان كان العدوان الاسرائيلي في ١٢ تموز ٢٠٠٦، وصمود المقاومة لمدة ٣٣ يوماً سجلت فيه انتصاراً غيّر وجه المنطقة، اذ سقط مشروع “الشرق الاوسط الجديد”، الذي بشرت به وزيرة الخارجية الاميركية غونداليزا رايس، وبدأ الوضع في لبنان ينقلب لمصلحة المقاومة والمعارضة التي فرضت شروطها على حلفاء اميركا في السلطة، بانتخاب رئيس جمهورية توافقي هو العماد ميشال سليمان الذي تعتبره قوى ١٤ شباط حليفاً للمقاومة وسوريا، وتشكلت حكومة وحدة وطنية، نالت فيها المعارضة الثلث الضامن، وهذا الانتصار فتح باب الحوار مع سوريا، فكانت زيارة رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوسي المنتمية الى الحزب الديموقراطي الى دمشق وتأكيدها ان الحل في لبنان يبدأ من البوابة السورية، ولا يمكن تغييب سوريا ودورها الفاعل في المنطقة وهو ما أقر به تقرير “بايكر-هاميلتون” الذي لم يقبل بوش العمل بموجبه، وحاول التصعيد ضد سوريا، وتأليب دول عربية عليها مثل السعودية ومصر والاردن، التي سميت بـ”دول الاعتدال”، في وجه المحور السوري ـ الايراني، وكانت انعكاسات الصراع السوري-الاميركي، والسوري-السعودي، والايراني-السعودي، على لبنان توتّرات سياسية وأحداثا أمنية، الى ان كان تاريخ ٧ ايار من العام ٢٠٠٨، الذي أحدث انقلاباً سياسياً، أطاح كل منجزات “ثورة الأرز”، وتمكنت المعارضة من إعادة التوازن الداخلي، وأسقطت مشروع نزع سلاح المقاومة سواء العسكري أو شبكة الاتصالات، او رفض التكامل بين الجيش والمقاومة والتنسيق بينهما، لأن من أتى الى قيادة الجيش العماد جان قهوجي مؤمن بهذه النظرية كما سلفه العماد سليمان، وهذا ما أزعج الادارة الاميركية التي أكدت فشلها في لبنان، كما في فلسطين والعراق.
فسوريا فرضت نفسها خلال اربع سنوات من سياسية العزل التي حاولت إدارة بوش اعتمادها انها رقم صعب في معادلة المنطقة، وجاءت الحرب الاسرائيلية على غزة، وصمود المقاومة الفلسطينية بوجهها على مدى ٢٢ يوماً، وتكرار السيناريو الاسرائيلي مع المقاومة في لبنان، ليضع سوريا طرفاً اساسياً في موازين القوى العربية والاقليمية، وتقدم دورها على الدول العربية الحليفة لأميركا، وباتت هي تملك قرار الحرب والسلم في المنطقة، وهو ما عجّل بزيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي اليها، وعندما انتخب باراك أوباما رئيساً للجمهورية، قرر أن يعمل بنصيحة رفيقته في الحزب الديموقراطي نانسي بيلوسي، وان يفتح حواراً مع سوريا، وان يطبق ما ورد في تقرير “بايكر-هاميلتون” فانفتح ايضاً على الحوار مع طهران وعيّن دنيس روس مسؤولاً عن ملفها، وأرسل اليها رسائل إيجابية.
إلا أن العلاقة الاميركية-السورية قطعت شوطاً متقدماً مع وصول أوباما، اذ زارت أربعة وفود اميركية دمشق كان آخرها رئيسي لجنتي الخارجية في مجلسي الشيوخ والنواب جون كيري وهاورد بيرمان، وفتحا حواراً مع القيادة السورية، وهو أمر مختلف عما فعلته الادارة السابقة، اذ أبلغهما الرئيس الاسد ان بلاده ترفض سياسة الإملاءات، وهي على استعداد لدراسة حقيقة المشاكل في المنطقة وإيجاد الحلول لها، وهو ما تفهمته الوفود الاميركية التي لم تحمل مطالب أو شروطاً الى دمشق، بل بحثا مشتركا ومناقشة لكل القضايا، اذ ان المسؤولين الاميركيين بدأوا يتفهمون دفاع الرئيس السوري عن المقاومة، ولم تعد النظرة الى سوريا انها تدعم “الارهاب” الذي عانت منه وتعاونت بشأنه مع الادارات الاميركية.
ولا يعني فتح الحوار عدم وجود خلافات، بل ان طريقة معالجتها تختلف عن المرحلة السابقة، وهو ما خرجت به الوفود الاميركية التي كشفت عن وجود احتمال للتعاون الفوري لدور سوريا الفاعل في المنطقة، حيث لم تتمكن “الادارة البوشية” من تحجيمه وإسقاط أوراق من يدها، اذ انها أصبحت أقوى من خلال حلفائها في المقاومة اللبنانية والفلسطينية، اذ قررت ادارة اوباما الانخراط مع سوريا في بحث كل الامكانيات التي تعالج شؤون المنطقة من خلال الفهم الصحيح لها، كما قال الاسد لزواره الاميركيين، وبأن يأخذوا مصالح دول المنطقة لا مصلحة اسرائيل فقط التي أصبحت عبئاً على السلام العالمي، وهو ما بدأ يتفهمه مسؤولون اميركيون، حيث يخشى رئيس حزب “الليكود” بنيامين نتنياهو من تغيير في السياسة الاميركية.
فمع رحيل صاحبي القرار ١٥٥٩ جورج بوش وجاك شيراك، فإن سوريا حققت تقدماً في إثبات وجودها على الخارطة العربية والاقليمية والدولية، وان طلب مساعد وزير الخارجية الاميركية جيفري فليلتمان الاجتماع بالسفير السوري في اميركا عماد مصطفى، للتباحث في العلاقات بين البلدين، ثم الحديث عن عودة السفير الاميركي الى سوريا وانفتاح السعودية للحوار مع سوريا وعودة العلاقات معها، كلها تطورات وإشارات إلى أن دمشق استطاعت من خلال صمودها واستمرار دعمها للمقاومة التي انتصرت في لبنان وفلسطين من أن تغير اللعبة في المنطقة، لجهة الاعتراف بدورها الاساسي والقوي في المشرق العربي والعالم العربي، وان مفتاح الحل هو بيدها، وان سياسية العزل والحظر لم تنفع معها، وباتت هي مقصد كل من يريد ان يكون له موطئ قدم في المنطقة.
Leave a Reply