لم يجب الخطاب الأول الذي ألقاه الرئيس باراك أوباما أمام مجلسي الكونغرس، الثلاثاء الماضي، على الكثير من الأسئلة الساكنة في رؤوس زعماء شرق أوسطيين، حول الاتجاه النهائي التي ستسلكه الإدارة الأميركية في التعاطي مع حزمة المشاكل والقضايا العالقة في المنطقة وأبرزها أزمة الملف النووي الإيراني والصراع العربي-الإسرائيلي. وإذا راهن هؤلاء الزعماء أو بعضهم على تلمس خطة أميركية واضحة فقد جاءهم الخطاب غير الشافي من رئيس كرس خطابه على مدى اثنتين وخمسين دقيقة للحديث عن خارطة طريق أميركية داخلية من أجل الخروج من الأزمة المالية اتخذت لها عناوين استهلاكية وصحية وتعليمية.
وإذ يعتبر المعنيون الإقليميون أن الرئيس أوباما أبقى على قدر كبير من الغموض فيما يخص توجه السياسة الأميركية في السنوات الأربع المقبلة، إلا أن الأميركيين بصفة عامة استقبلوا الخطاب بالأمل، خصوصاً أن الرئيس حرص هذه المرة على إقران الصعوبات الهائلة التي تواجهها أميركا بالتعهد بعودة “أميركا قوية” مثلما كانت، وبالخروج من الأزمة الراهنة “أقوى من ذي قبل”.
“الغموض البناء” قد يكون أنسب توصيف لنوايا الإدارة الأميركية الجديدة بإزاء عدد من الملفات العالمية الساخنة، وبخلاف الخطاب “الواضح” لمحافظي الإدارة الجمهورية السابقة الذي قسم العالم الى “فسطاطين” وأطلق أوصافاً على دول من قبيل “محور الشر” و”الدول المارقة” فإن الرئيس أوباما غيّب هذه التسميات في تناوله للعلاقة الأميركية مع تلك الدول، في إشارة إلى استعداد أميركي للتخلي عن لغة استفزازية لم تجلب في الماضي سوى المزيد من الأعداء للمصالح الأميركية.
الخطاب الرئاسي الأخير بدا استجابة لرغبة شعبية عارمة في تقديم أولوية الوضع المالي والاقتصادي على ما عداه والرئيس أوباما كان حريصاً على التذكير بالتزامه بأجندته الانتخابية التي رفعت شعارات بارزة من قبيل الانسحاب من العراق وإعادة التركيز على الحرب ضد الإرهاب في معاقله الرئيسة في أفغانستان وباكستان المجاورة اللتين أكد أوباما تصميمه على هزيمة الإرهاب فيهما شافعاً تصميمه بتعزيز القوة العسكرية الأميركية في جنوب غرب آسيا ببضعة آلاف من الجنود، بالتزامن مع تفعيل خطة الانسحاب من العراق و”تركه لأهله”.
في إسرائيل ثمة قلق لدى اليمين الذي يتأهب لتولي السلطة من هذا “الغموض الأميركي”، ويبدو أن “قلة الكلام الأميركي” حول سبل التعاطي مع الملف النووي الإيراني، خارج إطار العموميات عن ضرورة إطلاق حوار مع الإيرانيين، باتت دافعاً لمعظم الساسة الإسرائيليين للإكثار من كلامهم عن هذا الملف. فهذا إيهود باراك يعلي الصراخ ويؤكد وهو يستعد لمغادرة منصبه أن إسرائيل لا تلغي أي خيار في مواجهتها المشروع النووي الإيراني. وهاهي تسيبي ليفني التي فقدت فرصة تشكيل حكومة إسرائيلية رغم فوزها الانتخابي الأخير تقدم لغريمها بنيامين نتنياهو استعدادها لتقديم “شبكة أمان” للحكومة اليمينية المقبلة إذا ومتى قررت مواجهة “الخطر الإيراني الوجودي” وعلى ضوء اعتبار الجيش الإسرائيلي في الوثيقة المركزية للمهام الملقاة على عاتقه في العام ٢٠٠٩ أن إيران تشكلل الخطر الأساس على الدولة العبرية.
وهاهي إيران تعلن بالتزامن مع خطاب أوباما استكمال بناء مفاعل بوشهر النووي وإجراء تشغيل “افتراضي” ناجح له بحضور “الشاهد” الروسي صاحب الفضل في إنشائه. وتعتبر طهران أن إعلانها عن نجاح تشغيل المفاعل النووي مع الشريك الروسي خطوة متقدمة على صعيد رفع أثمان المقايضات المقبلة مع الإدارة الأميركية والغرب عموماً وانتزاع إعتراف بدورها في أمن المنطقة وفي المشاريع المطروحة لحل أزماتها المستعصية.
غير أن الإدارة الأميركية لا تبدو في عجلة من أمرها وليست خطوة تعيين دنيس روس من قبل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لتولي دراسة الملف الإيراني وسبل التعاطي معه سوى إشارة إلى التريث الأميركي بانتظار ما ستؤول إليه الانتخابات الإيرانية المقبلة وسط ما يحكى عن رهانات في العاصمة الأميركية على إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة،وهذا ما يقلق طهران التي ترى أن هذا الأسلوب الأميركي في التعاطي معها لم يتغير إلا في الشكل، ويبقى في الجوهر امتداداً لسياسات الإدارة الأميركية السابقة. وأكثر ما يقلق طهران هو الانفتاح الأميركي المتجدد على دمشق ومحاولة زعزعة التحالف “الاستراتيجي” معها، ولم تكن دعوة السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى الى الخارجية الأميركية للتباحث سوى إشارة قوية تندرج في طار محاولة إنهاء “الممانعة السورية” لتمهيد الطريق نحو فرض شروط أقسى على طهران اذا قدر للحوار المفترض مباشرته معها أن يؤدي إلى نتائج كفيلة بمنع تشديد العقوبات عليها أو في أسوأ السيناريوهات اللجوء إلى القوة معها لإنهاء هذا الملف. وقد كان السيناتور جون كيري وهو أحد أبرز “مرشدي” الرئيس أوباما، شديد الوضوح خلال جولته الأخيرة على المنطقة التي شملت دمشق وبيروت وأثارت امتعاضا في العاصمة اللبنانية من “فجاجته” الدبلوماسية، عندما اختار تجاهل الفريق السياسي الحليف لطهران وقصر زيارته السريعة على الرئيس اللبناني وأركان الأكثرية النيابية المناهضة للنفوذ الإيراني، وعندما دعا دمشق إلى “رقصة التانغو” مع واشنطن في إشارة إلى تحويل الإدارة الأميركية اهتمامها نحو المثلث الإيراني-الباكستاني-الأفغاني الذي تمتلك طهران دوراً أساسياً فيه، ورد الرئيس السوري الذي “حمل أوجهاً” لكنه بدا ميالاً إلى الاستجابة للرغبة الأميركية تحت عنوان “من غير إملاءات”.
إلا أن وجه المفارقة يبقى في كل الأحوال، فيما يبدو استعجالاً إيرانياً لفتح “جبهة الحوار” مع واشنطن، وعلى ضوء ما كشفه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن طلب طهران توسط تركي لفتح قناة للحوار مع واشنطن وهي الوساطة ذاتها التي كانت دمشق طلبتها لاستئناف التفاوض مع تل أبيب!
الأطراف الإقليميون من طهران إلى دمشق وصولاً الى إسلام آباد يعيشون، مع ذلك، فترة نقاهة من الضغوطات الهائلة التي مارستها الإدارة البوشية السابقة ويعولون على “فترة السماح” التي تحملها لهم الإدارة الأميركية الجديدة، لالتقاط الأنفاس ومراجعة الشروط والشروط المضادة في ظل غياب الاحتمال بقيام واشنطن بشن حروب جديدة وهي على أبواب الخروج من “الورطة العراقية” وإعادة الإمساك بنواصي “الحرب على الإرهاب” انطلاقاً من “وادي سوات” الباكستانية، التي باتت تمثل “جنة الأمان” لحركتي طالبان وتنظيم القاعدة اللذين تعهد الرئيس أوباما بمتابعة الحرب عليهما عبر تعزيز التحالف الباكستاني-الأفغاني في وجه طالبان التي تهدد بمد نفوذها إلى إسلام آباد في أي وقت.
هذا القلق الأميركي من المخاطر الباكستانية الأفغانية الماثلة لا يوازيه سوى قلق طهران من حكومة اليمين الإسرائيلي التي سيرأسها نتنياهو، الذي وضع الخطر الإيراني على رأس اهتمامات حكومته المتطرفة. والخطر من لجوء الرؤوس الحامية في إسرائيل إلى مقابلة “التحدي الإيراني” الذي مثل افتتاح محطة بوشهر النووية أبرز العلامات على عدم التراجع في الشأن النووي، أن يقدم متهورو اليمين الإسرائيلي المتطرف على استغلال الانشغال الأميركي بتكرار سيناريو قصف المفاعل النووي العراقي مطلع ثمانينات القرن الماضي.
قد تبدو وطأة الأزمة الأميركية أشد ثقلاً على واشنطن من أي ملف خارجي في هذه الآونة لكن مغامرة إسرائيلية “محسوبة” ضد طهران أو على الساحة اللبنانية أو السورية أو الاثنين معاً قد تعيد حسابات “عصر الحوار” الأميركي إلى “المسلمات الإسرائيلية” التي لا ترضى عن الانحياز الأميركي الأعمى للسياسات الإسرائيلية بديلاً.
فهل يستطيع الرئيس أوباما مواجهة هذا التحدي؟ الأشهر القليلة المقبلة، ربما تجيب عن الكثير من الأسئلة، رغم أن الكتاب يقرأ من عناوينه المتوترة!..
Leave a Reply