لو قدر لطرفي الصراع »السياسي« في لبنان المتمثلين بتحالفي قوى الرابع عشر والثامن من آذار أن يجلسا الى طاولة »حوار انتخابي« لأمكنهما الخروج »باتفاق الضرورة« الذي يلبي مصالحهما الانتخابية، باقل قدر من التشنج ورفع الصوت والسقف ولحصلت القسمة الانتخابية بلا صراخ أو شعارات يدرك اقطاب الحلفين أنها ليس اكثر من أداة استقطاب وتكتيل لجمهوريهما ولزوم ما لايلزم في »معركة الأحجام« التي لن يطرأ عليها جراء الانتخابات أي تغيير ذي مغزى أو شأن.
جميل الكلام عن »الديمقراطية« وضرورة »رضوح الأقلية لحكم الأكثرية« قبل أن يصار الى تدارك العبارة الأخيرة بأخرى أكثر واقعية: كالقول: »نحن مع الشراكة الوطنية لكننا ضد تعطيل المؤسسات« ورائع ذلك العرض »السخي« الذي لا تتعب المعارضة الحالية -باستثناء الجنرال المتمرد على »السياسة اللبنانية« ميشال عون- من تكراره والداعي الى منح الأقلية المقبلة أياً كانت الثلث المعطل، لأن البلد لا يُحكم من قبل فريق واحد وهو بحاجة إلى كل أطيافه ومكوناته لتستقيم عجلة الحكم وتدور، بدلاً من أن تخرج عن السكة وتتعطل مثلما جرى في السنوات الأربع الماضية.
ثمة شبه إجماع في التقديرات »العلمية« والاحصائية التي سهّل الوصول اليها نكوص الطبقة الطائفية الحاكمة في لبنان عن مشروع الإصلاح الانتخابي والتراجع إلى خطوط قانون العام ١٩٦٠ الذي أعاد رسم حدود الكانتونات الطائفية والمذهبية، بأن المعركة الانتخابية القادمة إنما تدور حول ما لا يزيد عن ثمانية وعشرين مقعداً في دوائر يغلب عليها الطابع المسيحي، فيما حسم منذ الآن مصير المقاعد المئة الأولى ولم يعد ينقصها سوى مبادرة رؤوساء اللوائح وزعماء الطوائف إلى تعيين الأسماء ليصبح بإمكان اللبنانيين تقديم التهنئة والتبريكات لأصحاب السعادة القدماء – الجدد قبل إجراء الانتخابات.
لكن حتى المعركة في المعاقل المسيحية التي لا تزال مصابة بـ»ميكروب« التنافس الانتخابي »الديمقراطي« ليس مقدراً لها أن تسهم في إنجاب أكثرية برلمانية واضحة أو مطلقة يمكن لأصحابها الزعم بأنهم قد ربحوا الانتخابات، وبالتالي يحق لهم رسم السياسة الجديدة للبنان بمنأى عن التأثيرات الاقليمية والدولية التي حرمت لبنان منذ عهده بـ»الاستقلال« من انتهاج أي سياسة لا تقع ضمن الخطوط العريضة، بل التفصيلية للصراع على المنطقة الذي تقوده القوى الكبرى إقليمية ودولية.
تكمن مشكلة الطبقة الطائفية الحاكمة في لبنان أنها لم تحاول ولا مرة واحدة الخروج -ولو جزئياً- من أسر الارتهان للمشاريع الخارجية وتدخلاتها في الشأن اللبناني، لأنها عاشت واستمرت بهذا الارتهان الذي غذته انقسامات الطوائف وحروبها، وكُرّس ما يحلو لأقطاب تلك الطبقة تسميته بـ»العيش المشترك«، حتى إذا قررت طائفة أو ملة أن »العيش« مع أقرانها لم يعد يطاق، يخرب البيت اللبناني ويعلو الصراخ طلباً لنجدة الأخ والصديق والجار (حتى ولو كان الجار عدواً، مثلما حصل خلال الحرب الأهلية).
تشبه الانتخابات اللبنانية وفق المعطيات والحقائق الآنفة لعبة أطفال صغار منقسمين إلى فريقين تأخذهم الحماسة في بعض اللحظات إلى حدود الاشتباك والعراك والخروج على قواعد اللعبة التي يسيطر عليها الكبار ويراقبونها عن بعد، فإذا ما قرروا ضبط اللعبة، زجروا اللاعبين وردوهم إلى »أصولها« صاغرين، طائعين.
ربما يرى البعض في هذا التوصيف افتئاتاً على أهلية اللاعبين اللبنانيين وانتقاصاً من »أدوارهم«، لكن متى أنتج اللبنانيون بمفردهم حلولاً لأزماتهم المتوالدة؟ في الطائف؟ أم في الدوحة؟
ألم يذهبوا إلى الأول مهشمي الوحدة، مدمّي الوجوه، وفي جعبتهم »رصيد« من المآسي الإنسانية التي حصدت مئات ألوف الضحايا والجرحى والمعوقين وخراباً في العمران والأنفس لا يزالون يعالجون آثاره ولما ينتهوا منها بعد؟
ألم يذهبوا الى الثاني بعد حرب مذهبية في عاصمتهم كادت أن تقضي على كل ما »أنجزه« لهم الآخرون من هدوء واستقرار بقوة الوصاية ونزع القرار المستقل لموصى عليهم جرى إقناع العالم بأنهم لم ولن يبلغوا سن الرشد؟ يحدثونك عن نتائج انتخابات سيكون مرجعية التعاطي مع نتائجها »اتفاق الدوحة« بالنسبة لطرف، و»اتفاق الطائف« بالنسبة لطرف آخر.
فالمتمسكون بأذيال »الطائف« يجهدون في التنظير لمحاسنه ويتجاهلون أنهم قد أسهموا في وضعه على الرف عندما ارتضوا بديلاً عنه صيغة الترويكا الرئاسية التي جعلت لبنان تحت حكم ثلاثة رؤوس، خضعت بدورها لحكم رأس واحد هو الشقيق السوري طيلة ١٥ عاماً. والمنظرون لمحاسن »اتفاق الدوحة« يهملون حقيقة أنه جاء نتاج غلبة أمنية لفريق، يستحيل على الفريق الآخر الإقرار بمفاعيلها على المدى الطويل، وأن استمرار هذه المفاعيل ليس سوى وصفة لحرب أخرى متى توافرت لها الظروف لن تتأخر في الاندلاع.
والحال أن ليس أمام اللبنانيين فرصة للتغيير الحقيقي، طالما أنهم ذاهبون إلى انتخابات بقانون يكرس دويلات الطوائف ويؤكد رعايتها لأتباعها على حساب دولة المواطنية التي قد يلزمها أكثر من »طائف« و»دوحة« كي يدرك اللبنانيون أن عليهم تحويل صيغة »عيشهم المشترك« إلى قانون »حياة مشتركة« لا يمكن الطعن فيه كل عقد من الزمن بحرب أهلية تحت مسميات رنانة وشعارات جذابة لرعايا طوائف لم يجربوا ولا مرة واحدة في تاريخهم فوائد الانتماء إلى دولة قانون ومؤسسات مثل باقي خلق الله.
حتى ذلك الحين، ستبقى انتخابات اللبنانيين تمرينات على خوض صراعات جديدة، وهي بالتالي، لا مصيرية ولا من يحزنون.
هل يتذكر اللبنانيون شعاراً ساد في تسعينات القرن الماضي عن »وحدة المصير والمسار«؟
بالأمس ذكرهم الرئيس بشار الأسد بأن انتخاباتهم ليست أكثر من تسلية لجمهور تغريه هذه اللعبة الزائفة: »لبنان لا يحكم بواسطة فريق واحد بصرف النظر عن الفائز في الانتخابات«! بالأمس أيضاً تحدث الرئيس الفرنسي لأول مرة عما أسماه »الإجماع اللبناني وضرورته«.
لِمَ كل هذا الضجيج إذن؟
Leave a Reply