تريد خالتي العودة إلى لبنان، موطنها الذي استقرت فيه منذ نحو خمس سنوات، قبل أن تشردها حرب تموز في العام ٢٠٠٦ مرة أخرى الى موطنها الثاني، أميركا، الذي قضت فيه الجزء الأعظم من عمرها برفقة زوجها الذي أنهى الموت غربته ولم يتح له العودة والاستقرار في مسقط الرأس ومرابع الطفولة والشباب.
غير أن خالتي لا تريد العودة الى لبنان إلا “بضمانات” تكفل الاستقرار الأمني والنفسي، لعيشها في بلدتها المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة. وهي لا تتعب في البحث عن هذه “الضمانات” في نشرات الأخبار على الفضائيات اللبنانية والعربية، دون طائل.
في كل مرة أزورها تبادرني بالسؤال التقليدي عن “الوضع” واحتمالاته. وكوني من المبتلين بمهنة البحث عن المتاعب، أجدني من غير أن أشعر اعرض لخالتي في كل مرة متاعب الوضع اللبناني وحراجته تاركاً لها تقدير الأمور واتخاذ القرار الملائم، مع نصيحة غير ملزمة بالتريث ريثما ينجلي خيط الأزمة الأبيض عن خيطها الأسود الممتدين منذ عقود أربعة بين “هدوء حذر” وآخر “نسبي” وبين جولات من الحروب والمعارك المتفرقة في الداخل، ومع العدو، دون أن تبرز في الأفق أية بارقة أمل في سلام مأمول تحلم به خالتي والعديد من أقرانها، لقضاء بقية باقية من العمر في ذلك المنزل الأول الذي يستبد الحنين إليه باصحابه، وفق ما يخبرنا الشاعر العربي.
ضبابية الوضع، إلى جانب “تقاريري” المتشائمة جعلت خالتي تلجأ إلى استخارة الله عز وجل بشأن قرار العودة، قبل نحو عام، وهي كلفتني بأن أحصل لها على جواب شاف من أحد المشايخ الورعين بعد اتكالها على الله. غير أن “الخيرة” لم تكن في صالح العودة المنشودة وجاءت النتيجة حاسمة بما لايقبل الجدل: “متعبة والترك أوْلى”.
مضى عام والحنين إلى العودة لم يبارح خالتي مثلما لم ترحم نواياها بالعودة مبارزات الساسة اللبنانيين على شاشة تلفزيونها بصورة يومية والتي باتت تداريها باستراحة مع المسلسلات التركية المدبلجة. أما نصيحتي فلم يطرأ عليها أي تغيير وباتت خلاصة تقاريري لها في الأشهر الأخيرة: “الوضع على ما هو عليه”.
بالأمس، اتصلت بي خالتي طالبة أن أكرر الاستخارة نيابة عنها لدى الشيخ الورع إياه، فقد ثبت لها أن “الخيرة” الماضية ساعدتها في اتخاذ القرار الصائب بالتريث، لكنه الحنين إلى العودة يلح عليها باستمرار ولذا فهي توكلت على الله مرة أخرى ووضعت قرارها رهن نتائج الاستخارة، مهملة سؤالي هذه المرة عن رأيي بالوضع، ربما لأنها باتت تتوقع مني الاجابة المتحفظة إياها والنصيحة غير الملزمة ذاتها.
اتصلت بالشيخ الصديق وطلبت إليه أن يكرر الاستخارة (وهو بالطبع لا يعلم أسبابها) فاستمهلني لثوان، ليعود ويخبرني بصورة قاطعة: “متعبة وتركها أولى”!
اتصلت بخالتي ناقلاً إليها “الخبر السيء”. بدا الذهول يملأ صوتها وهي تتلقى النتيجة: “لا بد أن هنالك سراً في الأمر” قالت. وأردفت: “والله ما ني رايحة” (ما أنا بذاهبة). قلت في سري لو أن خالتي طلبت مني “استخارة سياسية” لإسناد قرارها بمعطيات طارئة عن الوضع اللبناني لكان علي أن أمسك سبحة الأحداث الأخيرة وأمرر أفكاري على أبرزها: حكومة يمين متطرف في إسرائيل، لن يخفف من حدة خطورتها شراؤها لحزب العمل “اليساري” مقابل احتفاظ رئيسه بمقعده الوزاري، قمة عربية مصغرة في الرياض نتائجها تبعث على الالتباس أكثر من الوضوح وقمة موسعة في الدوحة يتربص أقطابها بعضهم بالبعض الآخر، وقد لا يجرؤ وأحدهم على حضورها خشية سوقه مخفوراً الى المحكمة الجنائية الدولية، وتحشيد انتخابي طائفي غرائزي لا يرحم أعصاب اللبنانيين وينذر بسوء ما قد يطيح الانتخابات برمتها، رسالة انفتاح من باراك أوباما إلى الشعب والقيادة الإيرانيين رد عليها المرشد الأعلى بـ”خارطة طريق” للرئيس الأميركي الشاب الغارق في هموم بلاده الاقتصادية والمالية، انفجار في مخيم المية ومية الفلسطيني يودي بمسؤول فلسطيني بارز يجمع كل الأفرقاء الداخليين والخارجيين على إدانته، لكنه لا يضمن عدم اندلاع “حرب مخيمات” يتطاير شررها إلى المحيط اللبناني المتوتر فيفجر صاعقه.
“استخارتي السياسية” المفترضة هذه جعلتني أسال خالتي: لماذا تصرين على العودة في ظل هذا التوتر السياسي والانفلات الأمني؟ لكن بدا لي سؤالي لهنيهة سخيفاً وغير ذي فائدة: هذه امرأة تحن إلى ديارها واستخارتها الله إن هي إلا تعبير عن توسل بأن ترأف العناية الإلهية بذلك الوطن الصغير الذي يقسو عليه أهله ويطرحونه في مزادات “السياسة” ومقايضاتها الرخيصة.
“لا، لست مضطرة للعودة” أجابت خالتي بنبرة تطفح بالمرارة. علقت: لو سألتيني بأن “أستخير” لك في السياسة لما اختلف جوابي عن جواب الشيخ: “متعبة وتركها أولى”!..
Leave a Reply