غوار الطوشة، حسني البورظان، أبو عنتر، ياسين بقوش، فطوم حيص بيص، أم كامل، أبو صياح، أبو كلبشة.. وآخرون. شخصيات درامية تعرف إليها الجمهور العربي منذ ما يقارب الأربعة عقود من الزمن من خلال مسلسلات رصدت البيئة الشامية بكثير من الحب والصدق والحساسية الفنية العالية، لدرجة أن الناس أحبوا تلك الشخصيات وتفاعلوا معها على أنها من لحم ودم، وليس مجرد اقتراحات فنية لصور بالأبيض والأسود تتحرك على الشاشة الصغيرة.
وبالتالي لم يكن غريباً أن تحل تلك الأسماء الفنية محل الأسماء الحقيقية لأصحابها، وهو أمر قلما حدث في فنون العالم. ولم يكن ذلك الأمر اعتباطاً أو مصادفة، ولا ترفاً أو ادعاء، بل كان تلقائياً لدرجة دوامه لوقت طويل، ولدرجة أنه أزعج الكثير من الفنانين الذين عملوا بكثير من الجهد والألم لتجاوز تلك الشخصيات. وهذا الأمر.. على غرابته يعكس قدرة الرواد الدراميين السوريين الأوائل على نسج الشخصيات وخلقها، وفي مقدمتهم الفنانان حكمت محسن ونهاد قلعي، إذ عمل كلاهما بطريقة ذكية وخلاقة على ابتكار شخصيات فنية ذات قدرة هائلة على التأثير، بكثير من الحذاقة وعمق الرؤية وبشكل يدل على قدرتيهما على فهم طبيعة العمل الفني واستقراء مزاج المشاهد العربي.
يمكن الإشارة، في هذا السياق إلى أن شخصية “غوار الطوشة” لم تكن الخيار الأول عند الفنان دريد لحام الذي عمل في البداية على تقمص شخصية تدعى “كارلوس” التي فشلت فشلاً ذريعاً، وفيما بعد عمد لحام إلى ابتداع شخصية غوار الطوشة الذائعة الصيت والمحببة لدى جمهور الدراما على أوسع نطاق. وكذلك الأمر، بالنسبة لشخصية “أبو عنتر” التي تقمصها الفنان ناجي جبر، وهي الشخصية التي نمت وتطورت من بذرة صغيرة، فقد كان من المقرر أن يقوم الفنان ناجي جبر بدور عامل المقهى، وهو الدور الذي أداه الفنان القدير ياسين بقوش، وبعد اطلاع الفنان جبر على السيناريو، لم تعجبه الشخصية التي اقترحها عليه الفنان نهاد قلعي، وبدلاً من ذلك، قام باختيار دور “أبو رعد” الذي كان دوراً لا يتجاوز المشهدين أو الثلاثة. أحب ناجي جبر هذه الشخصية التي يلتقي بها غوار في السجن، فتنعقد الصداقة بينهما. وقرر تأديتها بعد أن عمل على تغيير اسمها إلى “أبو عنتر” كما عمل على اختيار شكلها وطريقة أدائها، وإثرائها، وهندسة عالمها الداخلي.. الذي استطاع أن يجذب المشاهدين إليها، رغم أنها شخصية شريرة كما هو مفروض، وهنا بالضبط تكمن براعة الفنان الكبير ناجي جبر الذي استطاع بدون مغالاة أن يحبب أبو عنتر إلى قلوب المشاهدين رغم نوازعه الشريرة.
وكثير من المشاهدين، لا يعرفون التفاصيل التي رافقت الأعمال الدرامية الأولى، مثل “صح النوم” و”حمام الهنا” و”وين الغلط” وغيرها، ولكنهم أحبوا تلك الشخصيات وتحمسوا لحكاياتها، وصراعاتها الداخلية والخارجية، وانحازوا إلى مشاغبات غوار الطوشة ضد حسني البورظان. تلك المشاغبات اللذيذة والطريفة، والساذجة أيضاً، والأهم أنها كانت لا تنضح بالكراهية والحقد. فقط أراد غوار أن يدافع عن حبه العظيم لفطوم حيص بيص، هي التي وقعت في حب حسني البورظان، وانتهى بها المطاف إلى الزواج من ياسين بقوش: أية حبكة حياتية هذه.. المليئة بالواقعية بالأسى والسخرية من الحياة ومصائر البشر!!..
لوقت طويل، ظل المشاهدون يتحلقون حول الشاشة الصغيرة لمتابعة تلك الأعمال البسيطة كالماء، الواضحة كطلقة مسدس.. وقد حدث كل ذلك قبل أن تمتلئ الشاشات العربية بمسلسلات وحكايات أبطال عظام قادوا الجيوش الجرارة طوال ثلاثينات من الحلقات الرمضانية، ليهزموا في كل حكاية عدواً، أو أمبروطورية، في الوقت الذي تعاني فيه المجتمعات العربية من هزائم جماعية متتالية، وعلى مدار الساعة، بدون أن يستطيع أحد إيقافها..
عالم صغير، وجميل، ومدهش، في حارة دمشقية، نسيها الزمن، سنظل نحبه ونتذكره حتى بعد رحيل أناسه، وتغير ملامحه، لدرجة يمكن معها اعتبار رحيل تلك الشخصيات مجرد مجاز، أو مزحة.
لقد رحل في الأمس القريب الفنان ناجي جبر، وقبله بسنوات رحل الفنان القدير نهاد قلعي، لكن ذلك العالم بقصصه وحكاياته وآلامه وأفراحه، ما يزال باقياً.
ربما.. هذه هي فضيلة التلفزيون!
Leave a Reply