”المدرسة الجنبلاطية” تعلم الـ”مكيافالية” واستباق المصالح على المبادئ
هل بدأ جنبلاط ممارسة ”النقد الذاتي” لإعادة التموضع
يقول رئيس الهيئة التنفيذية ”للقوات اللبنانية” سمير جعجع، انه عندما يسمع كلام النائب وليد جنبلاط، منذ تحالفه معه في ”ثورة الارز”، كأنه يسمع كلام مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل، الذي كان يدعو الى تحييد لبنان عن الصراع مع العدو الاسرائيلي، والى منع وجود السلاح مع الفلسطينيين، والى الابتعاد عن العروبة، والى اعتبار لبنان اولا، هو العنوان الاساسي الخ….
فجنبلاط ومعه ”ثوار الارز” وفي طليعتهم سعد الحريري، غرقوا في شعارات الانعزال اللبناني، وبات لبنانهم خارج اطاره العربي الذي كرّسه اتفاق الطائف وثبته الدستور، بما هو اهتمام بقضايا العرب وفي طليعتها القضية المركزية فلسطين، حيث طغت شعارات التقوقع على الانفتاح والتفاعل مع المحيط العربي، وبدأ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يردد الشعارات الكتائبية والانعزالية نفسها، حتى بات فعلاً يستنسخ بيار الجميل الاب، الذي كان يدعو الى ان تكون ”قوة لبنان في ضعفه”، والاعتماد على الصداقات الدولية لحمايته بمواجهة اسرائيل، وهذا ما وقع فيه نجل كمال جنبلاط الذي رفع لواء دعم فلسطين ومقاومتها وثورتها، ودعا الى تسليح الجنوبيين وانشاء ”حرس شعبي” لحماية الحدود وردع اي عدوان اسرائيلي مقابل تلكؤ النظام السياسي اللبناني، حيث كان يمانع في تسليح الجيش اللبناني الذي كان جنبلاط الاب يدعو الى التعاون مع الاتحاد السوفياتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية لتزويد القوات المسلحة بالصواريخ والاسلحة والاعتدة المناسبة، للرد على الاعتداءات الاسرائيلية، وهو كان يواجه آنذاك مقولة ”قوة لبنان بضعفه”.
لقد انجرف رئيس ”اللقاء الديموقراطي” وانحرف عن اهداف حزبه، وكاد ان يحوله حزباً انعزالياً وطائفياً ومذهبياً، وهو اعترف أخيراً بخطأ نهجه، عندما قال في بحمدون لأعضاء حزبه، لقد أصبحتم مذهبيين في اشارة منه الى رد الفعل الذي حصل على اثر مقتل لطفي زين الدين على يد عناصر انتماؤهم المذهبي من الشيعة في بيروت، باقامة حواجز لخطف مواطنين شيعة وقد تعرضوا لبعضهم، لولا وصول جنبلاط بنفسه وإزالة الحواجز المسلحة.
وجاء حديثه امام عدد من رجال الدروز في منزل احد المراجع الروحية للطائفة الدرزية الشيخ ابو محمد جواد ولي الدين في بعقلين، حول من كان يريد توريط الدروز في مواجهة مع الشيعة، وذكر ”القوات اللبنانية” ومن اسماه ”هيدا سمير جعجع” الى ”تيار المستقبل” ورئيسه سعد الحريري الذي كان يريد ان يكون الدروز رأس حربة بمواجهة ”حزب الله”، في حين ان العناصر التي استقدمها من عكار وهي اكثر من الف عنصر، لم تصمد نصف ساعة في بيروت اثناء حوادث ٧ ايار من العام الماضي.
وكلام جنبلاط المنقول على ”كاميرا” هاتف جوال، والذي جاء تسريبه بعد حوالى شهر واكثر لحصول اللقاء، وقبله ايضاً تم تسريب شريط مصور بالطريقة نفسها الى محطة تلفزيون ”الجديد” لكلام قاس ايضاً بحق أعضاء حزبه، ولكلمات نابية حول ممارساتهم قاله في منطقة الشبانيه، القصد فيه هو توجيه رسائل الى الداخل والخارج، معطوفاً على مواقف علنية له تتحدث عن رفض نظرية ”لبنان اولا”، اذا كانت ستؤدي الى عزل لبنان عن محيطه العربي، ثم الى رفعه قضية فلسطين الى المركز الاول من الاهتمام وعدم تضييع البوصلة، ثم تكراره الحديث بالعودة الى جذور الحركة الوطنية والمنطلقات اليسارية، باتجاه تجديد النظام السياسي والغاء الطائفية، والنضال في صفوف النقابات والعمال وتحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية.
هذا الخطاب الجنبلاطي بعد اربع سنوات على ”ثورة الارز” وقيام ما سمي بقوى ”١٤ آذار”، اعتبره البعض اعادة تموضع والرجوع الى المرحلة السابقة التي كان فيها زعيم المختارة في صفوف الحركة الوطنية، وفي تحالف مع سوريا وفي تأييد المقاومة، وانه سيكون بعد الانتخابات النيابية في مكان آخر غير الذي هو عليه الآن سياسياً، في حين ان البعض يعتبر كلامه الحالي مشابهاً لذلك الذي قاله في بنت جبيل عام ٢٠٠٥ وكان متطرفاً اكثر مما يقوله الآن، وفتح الباب لتحالف رباعي عشية الانتخابات، وان كلامه الحالي انتخابي وسينقلب عليه، كما انقلب على مواقف سابقة وبدل مواقعه، وهو ما حصل بعد العام ٢٠٠٥ عندما حصل مع حلفائه من قوى ”١٤ آذار” على الاغلبية النيابية، فأصبح سلاح المقاومة سلاح الغدر، واعتبر ”حزب الله” تابعاً لإيران وينفذ سياستها، ويأتمر بأوامر مرشد الجمهورية الاسلامية الايرانية السيد علي خامنئي، وهو جزء من مشروع فارسي، الى إيمانه بـ”ولاية الفقيه”.
لذلك فإن جنبلاط الذي بات معروفاً بتقلباته وعدم ثباته على موقف، فإن تموضعه الجديد الذي يحكى عنه ليس مأخوذاً على محمل الجد، اذ قد يكون ظرفياً نتيجة التحولات والتطورات العربية والاقليمية والدولية، وهو الذي يوصف بأنه قارئ، وقد قرأ المشهد السياسي أمامه، بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية والاميركية وفتح الحوار مع سوريا ورفض تغيير نظامها، الى الانتصارات التي تحققت على يد المقاومة في لبنان وفلسطين بمواجهة اوسع عداونيين اسرائيليين وهو راقب الانفتاح الاوروبي على ”حزب الله”، وبدء حوار بريطاني معه، وهي اشارات الى ان ثمة تطورات حصلت، يحاول جنبلاط ان يلاقيها، بعدما انهزم المشروع الاميركي في المنطقة والذي راهن عليه، واندحار ”المحافظين الجدد” من الادارة الاميركية، ووصول اخرى قررت فتح باب الحوار مع ايران واستكمال ما بدأته مع سوريا التي لم تعد دولة معزولة كما ظن جنبلاط ان الغرب سيتمكن منها، فإذا هي مفتاح الحل لأزمات عدة في المنطقة، وتحديداً في القضايا الساخنة في فلسطين والعراق ولبنان.
هذه التحولات التي حصلت على مستوى المنطقة والعالم، قرأها جنبلاط كما حاول ان يقرأ التحولات التي حصلت بعد الاجتياح الاميركي للعراق وسقوط نظام حزب البعث فيه وإطاحة صدام حسين وإعدامه، فرأى رئيس الحزب الاشتراكي، ان ما حصل في العراق سيتمدد الى سوريا، ولكن قراءته كانت خاطئة، اذ صمدت سوريا ولم تتغير، وتغير الآخرون، وبات عليه ان يسير مع التغيير الآتي، فقرر التقرب من حلفاء سوريا، ليقترب منها، وهي التي تؤكد عبر مسؤوليها، ان صدرها يتسع للجميع، وهي ترحب بكل من يقف موقف العداء لإسرائيل ويؤيد المقاومة، ويرفض مشاريع التقسيم، ولا يرتبط بمخططات ضدها، وهذا ما يفعله الزعيم الاشتراكي، الذي أعاد تظهير خطابه الوطني والقومي السابق، عله يفتح طريق دمشق، بالرغم من تأكيده أكثر من مرة، انه لن يعود للعلاقة الشخصية والسياسية مع الحكم في سوريا، لإعطاء صدقية لموقفه منها خلال السنوات الاربع الماضية، والتي كان متطرفاً وداعياً الى احتلالها من قبل الجيش الاميركي والى إسقاط نظامها، ومحاكمة رئيسها الذي نعته بأشد النعوت وأقساها، ولموقعه الحالي في ”١٤ آذار”، الذي يشير دائماً الى انه لن يغادره، لكن عندما يبتعد في خطابه السياسي عنه، فإنه يكون قد بدأ يميز نفسه، وهو ما قاله في الشويفات ان على حلفائه ان يفهموا اسلوبه، بتذكيرهم بالثوابت التي يعود اليها، وهو كان بدأ الاعلان عنها، في ذكرى اغتيال والده في المختارة، مستذكراً مراحل نضال الحركة الوطنية اللبنانية.
فانتقال جنبلاط الى موقع سياسي آخر، أي الى قوى ”٨ آذار”، من المبكر الحديث عنه، وهو يقوم بنقلة مدروسة، بدأها بمراجعة نقدية لمواقفه من المقاومة، والعلاقة مع ”حزب الله” وانفتاحه على رموز في المعارضة كالرئيس نبيه بري والوزير طلال ارسلان، وإجراء مصالحات مع هذه القوى، لان ما يقلق رئيس التقدمي، هو الخطاب الطائفي المتطرف لدى اطراف أساسية في الطائفة السنية، وتحت مظلة ”تيار المستقبل” اذ يحذر في مجالسه من ظهور ”طالبان” لدى السنة، ونمو تنظيم ”القاعدة”، أو الحركات والتيارات التي تدور في فلكه، وهو ما يثير لدى جنبلاط الخوف، كما بدأت تنتابه حالة من الحذر من عودة ”المارونية السياسية” ولغة الانعزال لدى حلفائه المسيحيين في ”١٤ آذار” من ”القوات اللبنانية” الى الكتائب والوطنيين الأحرار، حيث يردد أمام مساعديه في حزبه، اننا أمام مرحلة دقيقة، ولا بد من تصحيح ما يجري وتصويب البوصلة، مع تراجع الخطاب حول العروبة وفلسطين داخل الطائفة السنية، وخلق عدو داخلي لها هو الشيعة، مما عزّز الخطاب المذهبي وتحول الصراع الى سني-شيعي خطير ومدمر، وفتح الساحة للقوى الاصولية السنية، وهو ما حصل في طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، كما ان ما يردده سعد الحريري عن ”لبنان اولا”، أعطى الفرصة للقوى الانعزالية لتعيد إحياء خطابها القديم الذي تسبب بالحروب الاهلية في لبنان، وتم الابتعاد عن الخطاب العربي.
كل هذه المعطيات دفعت بجنبلاط الى خطاب مختلف عن ذلك الذي يعلنه اقطاب ”١٤ آذار”، وهو يحاول مع حلفائه لا سيما الحريري، ان يعودوا الى الجذور التي لا يمكن التخلي عنها، لان غياب اللغة الوطنية هو الذي يعطي المجال للكلام الطائفي، والابتعاد عن ساحة القضايا القومية، تملأه القوى المتطرفة مذهبياً.
فالتموضع الجديد لجنبلاط ما زال في اطار الكلام الذي قد يمحى، وهو ما لا يصدقه المواطنون الذين مروا بتجارب سابقة مع ”المدرسة الجنبلاطية” المتقلبة في مواقفها، والتي يصفها البعض بالواقعية، لكنها مدرسة المصالح، التي تقاس المواقف والمواقع، عدا الوصول الى الغاية، وهذه طريقة ”ماكيافالية”، اذ تغيب المبادئ والقيم والاخلاق في السياسة، وهذا هو الاسلوب الذي يعتمده جنبلاط، اذ لا مشكلة لديه بأن يبدل موقفه وان يعتذر ويقود سيارته الى خصمه ليصالحه اذا رأى مصلحة في ذلك، وقد فعلها اكثر من مرة، كما لا يحاذر ان يقال عنه انه متقلب، وهو يتحصن وراء طائفة وحزب وجماعة، لا تسأله اين أخطأ، ولا تحاسبه على أخطائه، ولا تبدل موقفها منه، فتعتبره صاحب ”انتينات” ولديه اشارات، وقارئا للمتغيرات وكل هذه الاوصاف التي تطلق عليه تعطي لأعضاء حزبه ولتياره الجنبلاطي، ولكل من يدور في فلكه من الدروز، لكي يقدموا عنه التبريرات، بأن ما يقرره ”البيك” هو الصحيح، وما يعرفه هو لا نعرفه نحن، ولذلك ”مغفورة له أخطاؤه”، والى اين نتجه معه، هكذا يقول ”ابناء الظلمة” من الدروز الذين قرروا الانصياع للاقطاع السياسي، ورفض الخروج الى النور ليصبحوا متنورين قادرين على ان يميزوا، وصالحين لقلب الامر الواقع، فهل يمارسون هذا الدور في الانتخابات ام تستمر ”طائفة الاقطاع والقطيع” على حد قول احدهم في تخلفها وتقوقعها السياسي.
Leave a Reply