لو أجري استفتاء على عينة من أفراد الجالية اللبنانية حول سؤال واحد: أيهما أثار اهتمامك أكثر من بين أحداث الأيام الأخيرة؟- انفلونزا الخنازير- إطلاق الضباط الأربعة في بيروت.فأغلب الظن أن أكثرية واضحة سوف تختار الإجابة الثانية.هذا الظن ليس مبنياً على تخمين ذاتي. إنه حصيلة شبه “استفتاء” خضته من دون إرادة مني مع شريحة من الناس يوجهون إلي في العادة أسئلة عن “الوضع” كلما التقيتهم. و”الوضع” المقصود هو في أغلب الأحيان “الوضع اللبناني” الذي احتل في الأشهر الأخيرة مساحة كبيرة في أذهان اللبنانيين في هذه المنطقة مع اقتراب الانتخابات اللبنانية في السابع من حزيران المقبل، وتضارب التكهنات والتحليلات حول نتائجها المتوقعة.أعترف شخصياً أن شبح وباء “انفلونزا الخنازير” الذي نجا منه الرئيس باراك أوباما خلال زيارته الأخيرة إلى المكسيك، يثير قلقي منذ أن أعلنت المكسيك عن وفاة عشرات من مواطنيها بسبب هذا الفيروس الذي لا يزال العلماء محتارين في مواجهة “مناوراته” أمام جهاز المناعة البشري. وقد صرفت في الأيام القليلة المنصرمة جل أوقات مطالعتي على الإنترنت في التحري عن هذا الفيروس، على حساب أي اهتمامات أخرى، ومن بينها حدث إطلاق الضباط الأربعة الموقوفين في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، على أهمية هذا الحدث الذي حرّر الضباط الأربعة بقرينة البراءة بعد حوالي أربع سنوات من الاعتقال التعسفي.بالطبع ليس غريباً أن يلقى حدث إطلاق الضباط اهتمام اللبنانيين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم، في هذا المهجر الأميركي، لكن الغريب أن يطغى هذا الحدث على حدث من نوع تفشي فيروس “فلو سوان” والمخاطر التي يحملها تحوله إلى وباء يعم البشرية باسرها، وهذا الطغيان يتطلب دراسة سوسيو-سيكولوجية لواقع المهاجرين اللبنانيين والعرب والوقوف “علمياً” على هذه الظاهرة الغريبة، وهذا بحث يقع في مجال آخر من الكتابة لا أزعم فيه إلماماً وأتمنى لو تصدى له المختصون في ميداني علم النفس وعلم الاجتماع.كنت مع حلول يوم إعداد هذا العدد من الصحيفة للطباعة منهمكاً في البحث عن مادة تثقيفية عن فيروس “انفلونزا الخنازير” الذي نشر الرعب في أربع زوايا الأرض، وعثرت على مادة مفيدة وشيقة في العدد الأخير من مجلة “تايم” الأميركية عن الوقت الذي يستغرقه إنتاج أمصال مضادة لهذا الفيروس.حملت المادة كمن عثر على كنز ثمين لتعميمه على “أبناء جاليتنا” بعد ترجمته للعربية. وأثناء توقفي في أحد المحال التجارية العربية في مدينة ديربورن أقبل علي رجل بدت على وجهه إمارات السؤال والاستفسار. وبعد مصافحة والسؤال عن الصحة (خارج نطاق الأنفلونزا المتفشية) بادرني الرجل بلهفة الباحث عن إجابات لتساؤلات تؤرق مضجعه:”كيف شايفلنا هذا الوضع”؟ ولـ”سذاجتي” بادرت إلى طمأنة السائل بالقول: المسألة تحتاج إلى توخي بعض الحذر لكن الرعب غير مبرر، واكتشفت فوراً أنني أردد عبارة الرئيس باراك أوباما دون أن أدري. لكنني كنت في واد والسائل في واد آخر. وباستغراب و”اشفاق” عاجلني الرجل بالقول: أنا أسالك عن رأيك بإطلاق الضباط.. “كيف شايفلنا إياها”؟اعتذرت منه على “سذاجتي” وقلت ظننتك تسأل عن أخطار “انفلونزا الخنازير”. ابتسم وعلق : هذه “قصة صارت معروفة”! صعقت لهول هذه الثقة المفرطة التي كانت تطفح بها نبرة الرجل وقلت في سري متهكماً من حالي: “أنا، إذا متخلف عن سائر الناس في “معرفة القصة”، وأحسست أن التحقيق الذي كنت على وشك الشروع بترجمته عن الوباء الخطير قد لا يلقى الاهتمام الكافي من جملة القراء فتكون جهودي قد ذهبت هباء منثوراً أمام الحدث المجلجل المتمثل بإطلاق الضباط الأربعة في بيروت والذي انفجرت أصداؤه في مدينة ديربورن فطغت على كل ما عداها من أحداث بما فيها “حدث” الوباء ومناسبة إتمام أول رئيس أسود لأميركا المئة يوم الأولى من ولايته وإفلاس شركة “كرايسلر” وانشغال وسائل الإعلام بهذه الأحداث البارزة على الساحة الأميركية والعالمية.أعترف أنني فشلت في تخمين اهتمامات “أبناء جاليتنا” وللحظة أنبت نفسي بالسؤال: أين أنت يا هذا من “الأحداث” وعلى من تريد إلقاء مزامير “الثقيف الوبائي” يا داود؟.أحسست برغبة جامحة في إهمال الموضوع من أصله وتنازعتني نوازع الالتزام بتقديم “مادة مفيدة” والإحجام عنها لصالح الكتابة عن موضوع إطلاق الضباط الأربعة كمادة “غير مفيدة” في ساحة السجال اللبناني التي حقنها قرار قاضي الأمور البدائية في المحكمة الدولية بجرعة من الإثارة أضافت الى سعار الانتخابات حمى جديدة أين منها “حمى الخنازير” التي تجتاح العالم وتستنفر طاقاته في مواجهته أخطارها المحتملة على البشرية برمتها!لكن مع كل ذلك، يبقى حدث إطلاق الضباط الأربعة مناسبة سعيدة، خصوصاً لعائلاتهم رغم أنف “انفلونزا الخنازير” التي لم تحجب فرحة طال انتظارها، مع التمني أن يتجاوز لبنان والعالم هذا القطوع المرعب وأن يلتزم اللبنانيون، خصوصاً الرجال منهم، تعليمات وزير صحتهم بالامتناع عن تبادل القبل حتى إشعار آخر.
Leave a Reply