لم يعد الإعتراف بالقضية الجنوبية مهما أو مفيدا، لأنها أصبحت أمرا مفروضا وواقعا على جميع القوى السياسية التي تأخر البعض في الإعتراف والتعاطي معها، بينما حتى اللحظة يرفض البعض الآخر الإعتراف بها، مع أن الذكاء السياسي ولا نقول التعاطي الوطني (لأن القوى السياسية لا تتعاطى مع قضايا الوطن بوطنية تعني وضع مصلحة البلاد والشعب فوق كل الإعتبارات،ومن أجلها تتنازل القوى المخلصة عن مصالحها،لأن الوطن الكبير مصلحتها الأولى والأخيرة) يحتم ذلك.
كان الذكاء السياسي يستدعي الإعتراف بالقضية الجنوبية منذ اللحظة الأولى، في إطار وطني بحت، يستوجب العمل بروح صادقة على حلها بما يرضي أبناء الجنوب ويشعرهم بصدق الوحدة التي تشدقنا بها كثيرا، ومن أجلها سقط الآلاف من أبناء شعبنا (رغم عدم الحاجة لذلك السقوط) لأن الوحدة تمت بطريقة سلمية حضارية، ضمنت في وثائقها وأهدافها مصلحة شعب ووطن واحد، وكان من المفترض سيرها في الطريق السلمي الحضاري إلى ما لا نهاية، لكن ”حمران العيون” دمروا ذلك الطريق بإسلوبهم الخاص في ١٩٩٤، ليحكموا البلاد بعدها بإسلوبهم الخاص أيضا، والذي نسف وقضى على الوحدة في النفوس، وأفرز بسبب همجيته وعنجهيته ثورة في صدور الأحرار من أبناء الجنوب، المستمدين وقود ثورتهم الرائعة من تاريخهم النضالي الخالد.
منذ اللحظة الأولى للحراك الجنوبي العظيم، بادرنا في مواقفنا وكتاباتنا إلى دعمه وتأييده، لثقتنا الكاملة في وطنية ووحدوية رجاله الأحرار، ونصرة لقضيتهم العادلة، فهم أصحاب حق، ومن حقهم أن يستعيدوا الوحدة التي من أجلها وبسببها تنازلوا عن كل شيء، فقدموا دولتهم بأرضها وثروتها وعمولتها وكوادرها وعاصمتها وكرسي رئاستها صدقا وإخلاصا، وسعيا نحو بناء وطن جديد ينطلق من قداسة المشروع الوحدوي الكبير، والذي ظل سببا في إستمرار تنازلاتهم أثناء الفترة الإنتقالية التي سالت فيها دماء كوادرهم وصولا الى حرب عام ١٩٩٤، ثم آثروا بعدها الصمت والبعد والعمل على تمهيد طريق للمنتصر، لعله يرسي دعائم الوحدة المتمثلة في العدالة والمساواة وبناء دولة المؤسسات والنظام والقانون، ويحقق للشعب وقواه الطموح والأحلام. لكن ذلك المنتصر إعتقد أن الصمت أبديا، فتمادى في ممارساته الظالمة، ناهبا الأرض والثروة ومقصيا إبن الجنوب، الذي صبر وتحمل لعل المنتصر يستمع لنصائح الحكماء ويزيل آثار الحرب، أو يصحح مسار الوحدة من منطلق الشراكة المعمدة بالإتفاقيات والدستور، ولأن تلك النصائح الوطنية ثقافة لا يعرفها المنتصر، فقد قدم لأبناء الجنوب الحق كل الحق في إستدعاء روح نضالهم من تراب الوطن وتاريخ أحراره.
الحراك الجنوبي استحق التأييد والمباركة، لأنه مثل مخرجا للوطن من نفقه المظلم، ونعتقد بقناعة راسخة أنه أضاء الطريق لأبناء الشعب وعلمهم معنى النضال السلمي والكفاح ضد الظلم والظالمين، ولهذا لا غرابة ونحن نرى الإعتصامات والمظاهرات والإحتجاجات تمتد من الجنوب لتصل إلى صعدة والحديدة وإب وبقية المحافظات، ليصاب النظام بالجنون، وبدلا من التعاطي مع الحراك بأسلوب قانوني تقيده مصلحة الوطن والشعب، ذهب إلى قمعه ورميه بالرصاص والتهم بالجملة، فوصمه بالإنفصالي والتشطيري، واتهمه بالمناطقي المثير للأحقاد والكراهية لعله يكبح جماحه ويحجب رياح حريته من الوصول إلى الأجزاء الأخرى من الوطن، الذي تأثر كثيرا بذلك الحراك، لأنه (أي الوطن) كتلة واحدة تتأثر بما يحدث في أي جزء من أجزائها، خاصة عندما يكون الحدث مشعلا ينير الطريق لبناء وطن نهبه وحطمه نظام الدمار الشامل.
لا نزايد هنا بكلماتنا التي تمثل عدما أمام عظمة ما قدمه أبناء الجنوب من أجل وطننا، بل نقول الحقيقة الواجب على الجميع سماعها، ولذلك لم ننتقد أو نلم أي شخص منهم صاح في غضب ونادى باستعادة دولة الجنوب، لمعرفتنا أن من يصيح مكره وبطل،ومرغما لا مقتنعا، بفعل ممارسة رجال السلطة وأعوانهم الذين قدموا نموذجا ”إنفصاليا” في حكم لا يمت بصلة إلى الوحدة ومعانيها، ولهذا كنا مع ابن الجنوب في رفضه لممارسة سلبته وهوالأكفأ حقه في المناصب، وبسطت على أرضه وبحره وأخرجته من بيته، وبعد ذلك كله رفضت حقه في إستعادة حقوقه المنهوبة التي صارت اليوم قضية، شاء من شاء وأبى من أبى.
القضية الجنوبية اليوم، أمرا واقعا سياسية وحقوقية وإجتماعية، وعلى كل من يحب الوحدة والوطن من أبناء الشمال الإيمان بذلك، فلعل إيمانه يعيد للوحدة بريقها ويربط جسور الأخوة من جديد، بعد أن فككها النظام القائم، وهنا نقول أن أساليب المكابرة والعناد والإستهتار لن تفيد أو تشفع ساعة وقوع الفأس في الرأس، وهو أمر تأخر ربما استجابة لدعاء المخلصين من أبناء اليمن، المدركين جيدا أن ما منع ذلك الفأس من شق الوطن مجددا، هو عامل التأييد والمباركة الإقليمي والدولي، فالحراك الذي نجح في خلق القضية الجنوبية وفرضها بالأمر على القوى البلاد، كان فيه السياسية فيه من القوة والوضوح والتنظيم الكفاية داخليا، ولأن الحسابات الإقليمية والدولية لا تفكر في التقسيم والتجزئة الآن، فقد غضت الطرف عنه ولو مؤقتا، لأنها سمعت دويه ورأت آثار رياحه. وتلك مسألة لن تستمر وعلى كل من يحب اليمن التنبه للأمر. فمثلما كانت الظروف الإقليمية والدولية عاملا مساهما في إقامة الوحدة، فقد تكون سببا في تمزيقها، ومن يقرأ التاريخ ويستفيد من أحداثه سيكتشف ذلك بوضوح.
إن الإعتقاد برفض النظام الإعتراف بالقضية الجنوبية والتعاطي معها أمر خاطئ، فهو في الأصل معترف بذلك الحراك الذي جعله يفتح الخزائن ويصرف السيارات ويتنازل ويمنح الصلاحيات ويوسط الناس لإقناع من في الداخل والخارج، ثم رضخ برعب لمطالب القوى السياسية وأجل الإنتخابات، لعله خلال فترة التأجيل الطويلة ينجح في القضاء على القضية الجنوبية. وتلك مسألة لن يحققها لأنه وباختصار شديد لم يتعلم من الدرس، ولأن الحراك سيتواصل بطريقة مختلفة قد تفرض على الآخرين (القوى الخارجية) التعاطي معه بطريقة مختلفة أيضا، ربما تؤدي إلى كارثة سيتحمل مسؤوليتها النظام القائم، والقوى الأخرى التي تتردد في اتخاذ مواقف وطنية فيها من القوة والحزم والوضوح ما يحمي الوطن من التفكك.
لقد اتفقت الأطراف السياسية على تأجيل الإنتخابات، خوفا من الجنوب وقضيته، فأبناؤه بكروا في اتخاذ موقفا مشتركا بمقاطعتها، لأنها لا تعني لهم شيئا. وتلك خطوة فيها من الخطورة ما يعني أنه استفتاء على الوحدة رفضا أو قبولا. ونعتقد أن السلطة لو كانت واثقة بمشاركة أبناء الجنوب حتى المنخرطين معها، لأقدمت على إجراء الإنتخابات بطريقتها الخاصة. ولذلك، ظلت حتى آخر لحظة تعلن على لسان قادتها جميعا، بأن الإنتخابات ستجري في موعدها الدستوري، ربما تعشما في نجاح ”الوسطاء” في إقناع قادة الحراك ومعارضة الخارج، بالمشاركة على حساب القوى الأخرى، ولحظة وصولها إلى طريق مسدود آثرت التأجيل، برغبتها، معاهدة الأطراف المعارضة في اللقاء المشترك على إصلاح المنظومة الإنتخابية وتنفيذ الشروط التي وضعوها. وبرغم إيماننا وترحيبنا بذلك الإصلاح إلا أن فترة التأجيل الطويلة عنت لنا بوضوح أن القضية الجنوبية كانت العامل الأول والأخير للتأجيل، هروبا إلى الأمام بمطامع أن تعمل الأيام على إزالة كابوس الجنوب المرعب.
المقاطعة الجنوبية للإنتخابات مثلت خطوة في الطريق الصحيح،ولعلنا هنا لا نتفق مع القائلين بأنها لا تعنيهم، لأن الذكاء السياسي المعاكس والتعاطي مع الواقع الإقليمي والدولي، كان يعني بهدوء تحريك قطع اللعبة نحو مواقع وطنية كبيرة، وتلك نقطة نعتقد أن قادة الحراك مخيرين في الأخذ بها، إن أرادوا منح قضيتهم بعدا آخر سيعجل بكل تأكيد في فرض المتغيرات التي ستمثل رحيلا نهائيا للمارسات المصادرة للجنوب بعد مصادرة الشمال، ولعل تذكيرهم بأن مقاطعتهم فرضت الهروب نحو التأجيل، فإن مشاركتهم بمعطيات وطنية كبيرة، قد تفرض خلاصا وطنيا يعيد لقداسة المشروع الذي بنوه، وأضاعه نظام الدمار وأعوانه، بريقه، وتدفع بالقيادات الوطنية إلى المقدمة للسير بالوطن إلى الأمام.
لقد مثل التأجيل إنتصارا للقضية الجنوبية العادلة، كما شكل إبرة تخدير موضعي للنظام لبلع آلامه الباقية والمتجددة بعد ٢٧ نيسان (أبريل)، وهنا يجب على الشرفاء والمخلصين في السلطة الإستيقاظ وإرتداء ثوب الشجاعة والتضحية، فقد طال صمتهم ومل السكوت من سكوتهم، لعلهم ينقذوا الوطن بضخ إبرة ضمير حي تعمل على تجميع الجهود لحل تلك القضية بما يرضي أبناء الجنوب جميعا خاصة من في الداخل، لأنهم المعنيين قبل غيرهم بالأمر، كما نصح سيادة الرئيس علي ناصر محمد، ودولة رئيس الوزراء حيدر أبو بكر العطاس.
لله في خلقه شؤون.. منذ قيام الوحدة حتى اندلاع حرب ١٩٩٤ قدم أبناء الجنوب تنازلات من أجل بقاء الوحدة التي استخدمها الشريك الآخر شماعة لتحقيق ما يريد، حسب المقابلة الصحفية الأكثر من رائعة مع القيادي الإشتراكي شعفل عمر، ولأن الأيام تتداول بين الناس كسنة إلهية لا يمكن إنكارها، فإن النظام القائم اليوم مجبر وملزم (من أجل الوحدة) بتقديم تنازلات مشروعة بصورة سريعة وعاجلة، ستعمل على إعادة المشروع الحضاري لوحدتنا إلى طريقه الصحيح.
Leave a Reply