إني اعترف الآن، بعد هذا الزمن الذي يختزل أعماراً. أعترف أمام الملأ، بأني لم أسعَ يوماً إلى الاحتفاء بأمي في عيد الأم. لا أذكر بأني حملت لها هدية، زهرة ، أو وردة، أو منديلاً. لم أرسل لها بطاقة فتلصقها في إطار مرآتها بعد أن تعرضها على الأصدقاء والجيران. وعلى الرغم من انتمائي لشعب عاطفي مستتر، فنادراً ما كنت أقول لها: أحبك يا أمي!
ربما يعود ذلك إلى أنني كنت انتمي إلى جيل كان يعيش في أوج الاعتداد بالتحرر من كل ارتباط، يرفض كل ما يُفرض عليه. فكانت هي الضحية وخسرت أنا أجمل علاقة إنسانية بيني وبين أمي. في إحدى سنوات الدراسة، طلب معلم اللغة العربية منا كتابة موضوع إنشاء عن الأم، لم أكتب كالجميع عن أمي التي هي مصدر الحياة ومنبع العطاء الكوني لوجودنا، وإنها مثال للتضحية والعطاء، وإنها ربما تكون أعظم أم على وجه الأرض، لكنني كتبت موضوعاً عن أبي، الذي كنت أحبه كأم، وتمنيت لو كانت أمي مثله. كتبت ما كنت أشعر به وقتذاك عن أبي الذي كان من السهل الممتنع في الرجال، يأخذ الحياة ببساطة وهدوءوابتسامة وادعة لا تفارق محياه. يشجعني دائماً على حب الدراسة والتعليم ولا يقسو علي ويسامحني على هفواتي وأخطائي ويترك لي مساحة واسعة لأتكلم وأمزح وأحياناً لألهو معه وأتعلم من قصصه الكثيرة ويسمح لي بالخروج في مشاوير عديدة.
بالعكس منه كانت أمي، كنت أعتقد إنها حفيدة سلاطين بني عثمان، وقد ورثت عنهم الشدة والحزم والعنفوان ”وما فيش يا أمي ارحميني عند الخطأ والنسيان”. كانت تكره ذهابي إلى المدرسة، وتريد مني البقاء معها لمساعدتها في أعمال البيت والحقل والعائلة الكثيرة الأولاد.
موضوع الإنشاء ذاك أعجب أستاذ الرياضيات. المعلمون الآخرون اعتبروه مادة جديدة للقراءة. أستاذ اللغة العربية الذي كان لا يهمه إلا النقطة والهمزة والفاصلة والشدة وحرف العلة اعتبره موضوعاً خارجاً عن النص وطلب مني إعادة كتابته فاعتبرته مثل أمي رجعياً وديكتاتورياً!
لا زلت أذكر أول وداع ودعتني أمي من بيتنا القديم، احتضنتني طويلاً، ربما تعويضاً عن سنوات عديدة، ثم لوحت بيديها النحليتين الصغيرتين، ودموع ساطعة كانت تنهمر من عينيها الجميلتين، طالبة مني الرجوع وعدم الغياب الطويل، لكن ذلك الغياب اتخذ فيما بعد هيئة المأساة، وجعلها هي نفسها تهاجر وتترك البيت القديم الأثير على نفسها، مما أتاح لي فسحة ولو قصيرة من الزمن لأتقرب منها وأرش كل بهارات الندم على كل ما سببته لها من ألم عن جهل وغرور مني، وليمسني حبها الدافئ والكبير الذي كان يخفيه عذاب زواجها المبكر والعناية بجيش من الأولاد في أوضاع معيشية صعبة وحروب متعددة، وهجرة الأبناء والبنات. للأسف لم تطل هجرتها طويلاً وعادت لترحل عن هذه الدنيا بهدوء كما كانت تصلي وتتمنى من بيتها القديم في لبنان.
الآن، أشعر من الكتابة إليك يا أمي، إني أكتب إلى كل الأمهات المقيمات في الغياب، ولا أعتقد أن الأم تغيب عنا بعد الرحيل. الآن أشعر أن أمي تقترب مني حتى تنغرس في أعماقي كلما باعدت الأيام بيننا. أكتب إليك وأسألك أن تسامحيني لو قصرت بحقك. سامحيني على كل وقت لم أفهمك ولم أحاول لأفهمك فيه. سامحيني يا أمي يا أجمل الأمهات التي انتظرت جثمان ولدها الشهيد الذي لم يعد إليها، بل انغرس جسده في كل حبة تراب من جنوب لبنان، وسقى دمه الطاهر كل شجرة في كروم جبل عامل. سامحيني يا أمي لأنك طويلاً وحدك بكيت دماً ودمعاً وحزناً أورثك أمراضاً عدة، ورحلت حزينة إليه لأنه لن يأتي أبداً.
ترى من كان يعرف حزناً يشبه حزنك يا أمي؟!
Leave a Reply