ليس من قبيل المبالغة القول إن نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية قد حسمت عندما حزم قادة الطوائف اللبنانية أمتعتهم بعد أحداث ٧ ايار ٢٠٠٨ الدامية في بيروت وتوجهوا إلى العاصمة القطرية، ثم عادوا منها باتفاق يحمل اسمها.
ولا يزال طرفا الانقسام اللبناني ملتزمين بمفاعيل “اتفاق الدوحة” بشقه الأمني إلا أنهم انتهكوا موجبات التهدئة السياسية والإعلامية وزاد إنتهاكهم لها منذ بدأت حماوة الانتخابات بالارتفاع مع اقتراب الموعد المضروب لها في ٧ حزيران.
وإذ يغري المشهد الانتخابي الملتهب بالاعتقاد أن ثمة تغييراً في الخارطة السياسية وتوزع القوى على مساحتها لا بد حاصل، على وقع الخطب النارية حيناً و”الهادئة” أحياناً، غير أن التدقيق القليل في المدى الذي تبلغه هذه الخطب وحرص أصحابها على الانكفاء من أرض الخصم إلى ما وراء متاريسها، يظهر مدى حساسية الخطوط الفاصلة بين مصالح الطوائف والجماعات واحترام الجميع لها تحت مسميات جاهزة من نوع “الديمقراطية التوافقية” والحرص على “عدم تهميش الآخر”، والاحتكام إلى “منطق العملية الديمقراطية” الذي لا ينتبه معظم المشاركين في مسرحية الردح الانتخابي إلى حقيقة تجاوزهم له ووضعه في ثلاجة الانتظار لأربع سنوات قادمة طالما أن القانون الذي ستجري الانتخابات وفقه قد أمن لهم جميعاً الحصص التي ترضيهم وألغى أي “منطق ديمقراطي” في عملية الإنتخاب. أما ما نسمعه ونشاهده من مناكفات وسجالات فلا يعدو كونه لزوم ما لا يلزم لتقطيع الوقت الانتخابي ووصول قطاره إلى المحطة بأقل الأضرار الممكنة.
وإذا كان من نافل القول أن مسمّى “الديمقراطية التوافقية” هو التعبير المهذب للمحاصصة الطائفية، فإن التلطي وراء هذا المسمى يحمل في طياته أزمة نظام المحاصصة الطائفي التي إنكشفت وبلغت ذروتها بعد الخروج العسكري السوري من لبنان وغياب ضابط الإيقاع و”فنّي الصيانة” لهذا النظام الذي شاهدنا الكثير من عثراته خلال السنوات الأربع الماضية.
كنت قد اتخذت لمقالة كتبتها قبل أسابيع قليلة عنوان “الانتخابات اللبنانية: من يجرؤ على الانتصار”. وما نشهده على أبواب الاستحقاق الانتخابي يؤشر بالفعل إلى تهيب جميع الأفرقاء من “الفوز” وتداعياته على الأوضاع الداخلية للتحالفات الهجينة السائدة لدى الفريقين الرئيسين: ٨و١٤ آذار.
فالفريقان واجها في الآونة الأخيرة خضات واهتزازات في الصفوف الداخلية أطاحت برؤوس بارزة خصوصاً لدى فريق ١٤ آذار الذي ضحى برموز من طراز الوزير نسيب لحود وسمير فرنجية لمنع انفكاكات قاتلة في اللحمة الضعيفة بين عدد من أطرافه. ولم تكن “المعركة الحبية” بين “التيار العوني” والرئيس نبيه بري في دائرة جزين سوى نموذج عن تلك الاهتزازات التي تبقى مفاعيلها النهائية رهناً بما سيقرره ناخبو الحليفين بالاضطرار، ومدى التزامهم بالتوجيهات “الإعلامية” الصادرة عن قطبي “النزال الرياضي” وطريقة إدارة حَكَم هذا النزال، “حزب الله” لهذه المباراة ولون البطاقات التي سيرفعها في وجه اللاعبين للسيطرة على مجرياتها ومنع الأخطاء التي قد تنسحب على مباريات أخرى يشترك الجمهوران المعنيان فيها في أكثر من دائرة انتخابية.
لكن بإزاء هذا المشهد الانتخابي، غير الغريب على الحياة السياسية اللبنانية، يبدو قطب المعارضة البارز الجنرال ميشال عون وحده يغرد خارج السرب ويمارس العزف منفرداً على أوتار مشدودة على آلة منفصلة حتى عن “آلات” المعارضة.
فهو يريد تغييراً تحمله الانتخابات يفضي إلى “الجمهورية الثالثة” (تعديل أو إلغاء الطائف) وهذه الجمهورية يبقى الدخول إلى عهدها رهناً بتوافق الأكثريتين السنية والشيعية، وهذا التوافق له أبعاد تتخطى الحدود اللبنانية، وتلك الأبعاد لم تتبلور بعد، وتخضع للفحوصات والتحليلات في مرحلة “اختبار النوايا” التي يفصح لاعبون دوليون وإقليميون أنهم دخلوها ويطلبون المزيد من الصبر لإصدار الحكم عليها.
على أن استعجال الجنرال عون للدخول في “الجمهورية الثالثة” لا يخلو من طرافة، فهو بعدما استنفد أو يكاد حملته على “السنية السياسية” ممثلة بتيار المستقبل و”الحريرية” كما يحلو له وصفها، ارتد في الأيام الماضية الى “العرين الماروني” المتبقي ممثلاً برئاسة الجمهورية مستنكراً “سكوت” الرئيس عن “إشاعات” وحملات إعلامية طالته على خلفية اتهامه بالتخطيط لاختصار ولاية الرئيس سليمان وانتخاب رئيس جديد بعد الانتخابات في حال فوز فريق المعارضة فيها.
وجه الطرافة لا ينحصر في طموح الجنرال عون إلى تغيير نظام طائفي يسعى أقرب حلفائه الى شد لحمته ومنع انهياره بعرض الشراكة مع الفريق الآخر، بصرف النظر عن الفوز في الانتخابات أو خسارتها، إنما أيضاً في ارتداء ثوب “النبوة” السياسية والخروج به على حشد من “شياطين الطائفية” يتنادون إلى إنقاذ نظامهم بعدما أشرف على مرحلة الإفلاس التام.
هكذا يصير تمثل “متنبي الرابية” بقول المتنبي “أنا خير من تسعى به قدم” بوجه “سيف الدولة” البعبداني الجنرال ميشال سليمان – مع الفارق في وجه الشبه بين موقع الرئاسة الضعيف بـ “التوافق” وموقع أمير الدولة الحمدانية المهاب- مدعاة لاستحضار الإحباط الذي أصاب الشاعر المتنبي الذي ظل يتسول ملكاً لا يأتيه حتى سقوطه صريعاً في كمين إظهار المقدرة والبراعة والشجاعة والتفوق في بيته الشهير:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لعل “متنبي” الرابية أخطأ في عتاب “سيف الدولة” في بعبدا عندما باهله بالقول “أنا خير من تسعى به قدم”.
فربما كان من الأحكم أن يعاتبه ببيت آخر من القصيدة مثل:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
والأرجح أن “متنبي” الرابية لن يظل “نائماً ملء جفونه” عن شوارد النظام الطائفي الذي يحاصر طموحاته الرئاسية الحية والمشروعة، إذا كف “قوم السنة والشيعة” عن السهر جرّاها والاختصام حولها!.
وأما “سيف الدولة” البعبداني الجنرال ميشال سليمان، فلن يفلح أي من حساد “متنبي الرابية” في دفعه إلى رميه بـ”دواة الحبر” على خلفية زعمه بالتفوق على سائر بني البشر اللبنانيين، لأن لديه من التواضع والحكمة والاعتدال ما يكفي لاستيعاب أسباب غضب جنرال الرابية عليه وهي أسباب ليس لها علاقة برئيس الجمهورية بقدر ما ترتبط بأقرب حلفائه في المعارضة.
ألا يتذكر الجنرال عون تصريح نائب الأمين العام لـ”حزب الله” ذات فراغ: “إن مرشحنا التوافقي إلى رئاسة الجمهورية هو العماد ميشال سليمان”؟
Leave a Reply