لا شك بان سقوط المعارضة في الانتخابات اللبنانية كان مدوياً، وكان صدمة ليس بعدها صدمة تلقاها كل من ”حزب الله” و”التيار الوطني الحر” بمرارة وتحسر على ثلاث سنوات ذهبت سدى، من الكدح والعمل المضني للوصول إلى السلطة والتحكم بالقرار اللبناني والإمساك بناصية اللعبة السياسية من طرفيها. أما وقد وقعت الواقعة ورجعت المعارضة إلى قواعدها ”غير سالمة” بعد معركة قاسية ولو كانت غير متكافئة بالعدة والعتاد والمال والنفوذ، فإن الهزيمة يبقى اسمها هزيمة بغض النظر عن الظروف الموضوعية التي أدت وجرّت إليها.. المهم أن لا تتحول الهزيمة إلى انكسارات متتالية وإلى إحباطات من المؤكد أنها ستؤثر سلباً على أداء المعارضة في المرحلة المقبلة وعلى أسلوبها في إدارة ”أزمة حكم” مرشحة للاستمرار حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة عام ٢٠١٣.
بالنتيجة كانت الخسارة عظيمة لأن حجم الأمل المعقود على ربح الأغلبية النيابية كان كبيراً جداً، ومما زاد من شعور الصدمة عند المعارضة هو التقدم الذي حققه حلفاؤها في المنطقة مع دخول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض وإعلانه عن افتتاح مرحلة جديدة (لم تتضح معالمها بعد) في التعاطي مع قضايا المنطقة، الأمر الذي أفقد ”حزب الله” هامشاً كبيراً في المناورة السياسية على مستوى الإقليم وعلى مستوى مقاومته للكيان الصهيوني، وما لذلك من علاقة مباشرة بترسانة الأسلحة الاستراتيجية التي يملكها الحزب في لبنان، والتي تشكل مصدر قلق دائم لإسرائيل ومعظم دول العالم. وليس خافياً على أحد مستوى الاهتمام الإسرائيلي والمتابعة لنتائج الانتخابات ليس فقط على مستوى القيادات بل على المستوى الشعبي أيضاً، حيث كان هذه المرة الجمهور الإسرائيلي في فلسطين المحتلة وفي الانتشار العالمي يشارك قوى ١٤ آذار الرأي القائل بمصيرية الانتخابات وخطورتها حتى أن البعض منهم أدلى بوجهة نظره بشأن سلاح ”حزب الله” وكيفية حماية لبنان من الأخطار الخارجية! وهنا بعض النماذج مما رواه بعض الإسرائيليين المقيمين في ولاية نيويورك:
في احد المطاعم اليونانية في منطقة ”كوينز” وكالعادة فإن حديث الانتخابات كان الوجبة المفضلة في حاضرة الإغريق. لاحظ أحد الجالسين بالقرب منا أننا نتحدث باللغة العربية، وعندما هممنا بالرحيل استوقفنا سائلاً فيما إذا كنا لبنانيين، فأجابه أحد الأصدقاء بالإيجاب، ثم سأله من أين من لبنان؟
الصديق: من بيروت، فضرب الرجل على راسه معجباً، أو ربما حاسداً، قائلاً لَكَم أحببت أن أزور تلك المدينة وأرتاد مقاهيها محدداً بعض أهمها؟
فسأله الصديق من أين أنت؟
الرجل: اسرائيلي.
الصديق: هل كنت في لبنان؟
الاسرائيلي: لا ولكن أحلم أن أزور بيروت.
الصديق: يبدو أنك ستبقى تحلم.
الاسرائيلي: أعلم، أزور مكة ولا أستطيع أن أزور بيروت، واستطرد قائلاً: ولكن الأمور الآن ستتغير بعد ربح ”الحريري” الانتخابات وخسارة ”حزب الله”، يمكن الآن أن نرى سلاماً بين لبنان وإسرائيل، وكما نلتقي هنا في نيويورك يمكن أن نلتقي في بيروت أو تل أبيب. أجابه الصديق بأن ذلك مستحيل حتى ولو تحقق ”السلام”.
في مكان آخر تقدم نحوي أحد الأشخاص بعد أن سمع حديثي وأصدقائي عن نتائج الانتخابات، ألقى التحية بلهجة سورية سليمة، ثم دخل مباشرة في صلب الموضوع مبدياً رأيه بما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان، سألته من أين أنت؟ فعلم بما ألمح إليه من أن لهجته السورية لم تحجب انتماءه، فأجاب بأنه إسرائيلي.
قلت له: متى هاجرت من سوريا؟
قال: عام ١٩٩٦
سألته: هل تعرضت لمضايقات دفعتك للهجرة من سوريا؟ قال لا
فسألته إذن لماذا هاجرت إلى إسرائيل؟
قال: إنها دولتنا الموعودة.
هل لك أقارب في سوريا؟
نعم.
هل تعتبر نفسك عربياً يهودياً.
أجاب: كلا، فأنا إسرائيلي أتكلم العربية.
لماذا تهتم بحديثنا عن الانتخابات النيابية؟
أجاب ضاحكاً بأنه سعيد لانتصار سعد الحريري وخسارة حزب الله.
أجبته بأن إسرائيل لم تستطع هزيمة ”حزب الله” في حرب تموز ٢٠٠٦.
قال: المهم انه خسر الانتخابات ولن يستطيع الاحتفاظ بسلاحه، ثم وجه نصيحة للبنانيين لحماية أنفسهم بأنفسهم من الاعتداءات الخارجية متمنياً على اللبنانيين أن يقروا ”استراتيجية دفاعية” تمكنهم من نزع سلاح ”حزب الله”.
قلت له: اعتداءات خارجية ممن؟
قال: من إسرائيل لأنه مادام حزب الله موجود فإسرائيل لن تكف عن مهاجمة لبنان.
فقلت له: حزب الله لم يكن موجوداً عندما ارتكبت إسرائيل مجازر في لبنان
قال: إسرائيل تحارب الإرهاب.
قلت إسرائيل هي الإرهاب بحد ذاته..
قال الأمور تغيرت اليوم بعد ربح ”الحريري” الانتخابات ثم أدبر ”مرندحا” أغنية باللغة العربية..
في أحد المراكز التجارية بمدينة مانهاتن، تقدم أحد البائعين منا عارضاً علينا المساعدة كما تحتم عليه وظيفته، سألته عن بعض ما أحتاجه، ثم سألني من أين أنت؟.
ميشيغن
لم يرضه ذلك، فعاود سؤالي: أعني أصلك؟ أجبته بأني لبناني
قال لي: بلدكم جميل
هل زرته؟
قال: لا ولكن أتمنى زيارته.
وما يمنعك؟
أنا إسرائيلي لا أستطيع زيارة لبنان، ولكن آمل مع سيطرة الحريري على لبنان بعد ربحه الانتخابات أن تتغير الأوضاع ويعم الاستقرار والسلام بين لبنان وإسرائيل
أجبته بأنها أمنية صعبة ومستحيلة، ثم سألته عن بلده الأصلي قبل هجرته إلى إسرائيل.
فقال: إيران
فقلت وإيران بلد جميل أيضاً.
واضفت متهكماً تستطيع أن تزور لبنان بجواز سفر ك الإيراني.
قال لا أملك واحداً ولا أريد هذا الجواز ولا أعتبر إيران بلدي. فشعرت بسعادة داخلية لكون إيران أصبحت خارج ”الأطماع الإسرائيلية”!
تلك كانت بعض الأمثلة القليلة من وقائع كثيرة يعايشها العرب واللبنانيون تحديداً في ولاية نيويورك نظراً للوجود الإسرائيلي الكثيف، بحسب ما أخبرني جمع من الأصدقاء..
وبالعودة إلى تجليات المعركة الانتخابية وما أفضت إليه من نتائج سياسية على الأرض، فقد تعرض مشروع الجنرال عون الإصلاحي لنكسة في الصميم ليس فقط من الناحية التطبيقية بل أيضاً من ناحية الاستجابة الجماهيرية لطروحات التيار الوطني الحر الذي أظهرت صناديق الاقتراع مدى تأثر هذا الجمهور بالحملة الإعلامية المضادة التي استهدفت التيار وضربته في العصب.
إلا أن النتيجة النهائية للاشتباك الذي استمر أكثر من ثلاث سنوات كانت العودة إلى مكمن الخلاف الذي فجر هذا الاشتباك، مع فارق الظروف الإقليمية والدولية الأقل وطأة من المرحلة السابقة. وعليه فإن تلك الظروف المؤاتية هي ما يُعوّل عليها في ترتيب البيت الحكومي وتقسيمه بين الفريقين بصيغة توافقية لا تشعر معها الأكثرية بأنها مغبونة، وفي نفس الوقت لا تشعر المعارضة بأنها معزولة أو مستبعدة أو مستهدفة.
وحتى إشعار آخر، وإلى حين إخراج النظام اللبناني من صيغته الطائفية الحالية التي رعاها اتفاق الطائف، فقد سجلت المعارضة هدفها اليتيم أو نصرها الجزئي -إذا جاز التعبير – واحتفظت بسلاحها الميثاقي عبر تطويب التمثيل الشيعي على امتداد البلاد للثنائي ”حزب الله” وحركة ”أمل”، وفرضت على قوى ١٤ آذار لحظة صدور النتائج حتمية إعادة انتخاب الرئيس بري مرة جديدة لرئاسة مجلس النواب، وهو ما أدى تلقائياً إلى الإقرار الأكثري بالميثاقية التي تحدث عنها الطائف وأغفلتها قوى ١٤ اذار طيلة فترة الاشتباك على خلفية المشاركة في الحكومة التي استمرت من دون تمثيل شيعي وزاري بعد استقالة الوزارء الشيعة الخمسة أواخر العام ٢٠٠٦. ومن هذه النقطة يتحرك ”حزب الله” سياسياً ليسجل خرقاً نوعياً يبدل نتائج الانتخابات، أو على الأقل يبطل مفاعليها السياسية من خلال استعمال سلاحه الميثاقي داخلياً، المتمثل بحجب الشرعية الشعبية عن مجموع الوزراء الشيعة إذا ما سمتهم الأكثرية في حكومة من لون واحد، ومن خلال القنوات الإقليمية التي تعمل على إنضاج معادلة حكومية توافقية ترسي الاستقرار بانتظار ما ستؤول إليه العلاقات السعودية – السورية والسورية-الأميركية في ظل الغموض الذي مازال يعتري سياسة الرئيس أوباما تجاه منطقة الشرق الأوسط.
وسط كل هذه الضجة التي أحدثتها الانتخابات يجد النائب سعد الحريري نفسه أمام تحدياً كبيراً لا يمكنه تجاوزه، وهو العقدة أو المعضلة الشيعية إذا صح التعبير، فهو من ناحية يسعى لأن يكون رئيساً لأول حكومة بعد الانتخابات في عهد الرئيس سليمان، ولأول مرة في حياته بعد تجربة سياسية صعبة وقاسية، خاضها ذاك الشاب القادم من عالم المال والأعمال إلى عالم السياسة على صهوة اغتيال والده، ومن ناحية أخرى فهو لا يمكنه أن يكرر أخطاء ”النائب المنتخب” فؤاد السنيورة خلال فترة ترؤسه للحكومة، مع ما جرّت تلك المرحلة من مآسي وآلام نتيجة الكيدية التي برع السنيورة في ممارستها انطلاقاً من موقعه الذي حوله إلى منصة هجوم مذهبية على الآخرين.
فالمسألة الشيعية عند النائب الحريري تعتبر مفتاح النجاح أو الفشل في إدارة الحكومة المقبلة، وعلى النائب الحريري أن يختار بين حكومة لا ميثاقية فاقدة لأغلبية التمثيل الطوائفي وبين الثلث المعطل الذي لن يشارك ”حزب الله” في الحكومة إلا به، ولو كان هذا الثلث غير مرئي أو مظلل بعباءة الرئاسة الأولى.
وبالرغم من أن الحريري لا يعير اهتماماً كبيراً للجنرال عون، حتى أنه لا يرغب به شريكاً مسيحياً في الحكومة، لأن لديه ما يكفيه أو ما يعطيه شرعية ميثاقية مسيحية لحكومته، فإن الحريري يبقى عاجزاً عن استبعاد الجنرال من المعادلة الحكومية لتشبث ”حزب الله” به وإعلانه شريكاً مضارباً في السراء والضراء، ما يجعل الحريري مرة أخرى، ولكن بطريقة مختلفة أمام خيار ”زي ما هي” في تشكيل الحكومة، وبالتالي العودة إلى المربع الأول في لعبة الدومينو اللبنانية في ظل ستاتيكو دقيق ومعقد تحكمه توازنات إقليمية ودولية لا تحتمل الحسابات الخاطئة، كما حصل فجر ٥ أيار ٢٠٠٨.
Leave a Reply