قد لا يكون بالإمكان الوقوف على مدى ”التلاعب” بنتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، رغم إصدار المرشد الأعلى، صاحب الكلمة الفصل في الجمهورية الإسلامية، أوامره بإعادة فرز جزء من أصوات الناخبين على وقع ضجيج الشارع المعارض للرئيس المعلن فوزه بولاية ثانية محمود أحمدي نجاد. غير أن أية إعادة نظر في نتائج هذه الانتخابات من المستبعد جداً أن تؤدي إلى تغيير كبير في صورة الفوز الذي بشر به المرشد داعياً الإيرانيين إلى الاحتفال به بوصفه ”عيدا”.
والأرجح أن المرشد الأعلى السيد علي خامنئي أراد لمرشحه المفضل أحمدي نجاد ”فوزاً مبينا” على خصمه الإصلاحي ليبعث برسالة قوية إلى الولايات المتحدة والغرب وكل المعنيين بالشأن النووي الإيراني، أن إيران ماضية في تشددها في هذا الملف ولا يمكن أن تخضع للضغوط الممارسة عليها، قبل أن تحقق الأهداف المرسومة ضمن الاستراتيجية السياسية للجمهورية الإسلامية وأبرزها الاعتراف بدورها كقوة إقليمية عظمى وبنفوذها في منطقة الخليج خاصة التي تمتد على طول شواطئه وفي منطقة آسيا الوسطى ذات العمق الديني والمصلحي الإيراني.
أبرزت نتائج الانتخابات الإيرانية رهانات وأوهام غربية وعربية متسرعة على إمكانية حدوث ”انقلاب أبيض” أو ”ثورة مخملية” على نظام ولاية الفقيه الذي يمسك من خلاله المرشد الأعلى بكل مفاصل السلطة وأدواتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية. وذهبت بعض المواقف الغربية (باريس مثلاً) إلى المطالبة بإلغاء نتائج الانتخابات والرضوخ لإرادة الشعب الإيراني بإعادة إجرائها. وبلغت درجة المراهنة على حركة الاعتراض الشعبي في الشارع الإيراني تخيل أن أنصار موسوي سيعيدون تجربة الثورة التي قادها الامام الراحل الخميني ضد أمبراطورية الشاه السابقة في الشارع. لا يختلف المراقبون للشأن الإيراني أن ما يجري، وإن تكن له دلالات على مستقبل طريقة حكم الإيرانيين، إلا أنه سيبقى تحت سقف الصراع الناعم بين أجنحة السلطة أو النخبة الحاكمة والذي يتحكم بمجرياته مرشد الجمهورية بما يمتلك من صلاحيات وسلطات وإمساك بالمؤسسات تجعله قادراً، أقله في المدى المنظور، على إعادة الصراع إلى مجاريه المقبولة والمرسومة بدقة تحت سقف لا تطاله أي حركة اعتراض مهما علا شأنها في ظل الدستور الإيراني الحالي.
لكن في المقابل لا يجوز التقليل من شأن حركة الإصلاحيين وتجرئها على تحدي المرشد ورفض إعلانه فوز المرشح المحافظ واعتباره نصراً كبيراً يجب الاحتفال به. وهذا ما لم تشهد إيران مثيلاً له منذ قيام ثورتها وإرساء جمهوريتها الإسلامية في العام ١٩٧٩.
فالأزمة الناجمة عن نتائج الانتخابات ليس مردها فقط الاشتباه بعملية تزوير كبيرة يرى الإصلاحيون أن ”حرس الثورة” وباقي فروع المؤسسة الدينية الحاكمة متورطون فيها، ولا يمكن اختصارها بذلك الصراع ”التقليدي” بين المحافظين والإصلاحيين. إنها مؤشر بالغ الوضوح إلى حيوية المجمتع الإيراني وديناميكية مكوناته، وإلى رغبة جامحة بإعادة الانخراط في المجتمع الدولي الأكبر على أسس أكثر تواضعاً، وعلى المطالبة بتخفيف حدة النهج الثوري الإيراني وإعادة رسم خطوطه الكبيرة بما يتلاءم مع حدود القوة الإيرانية، وبالتالي حرمان أعداء ”الأمة الإيرانية” من فرصة الانقضاض على الثورة ومنجزاتها وتعريضهما لمخاطر وجودية قد تتفوق على مخاطر حرب الخليج الأولى مع عراق صدام حسين، التي تجرع مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الراحل آية الله الخميني كأس القبول بإنهائها بعد ثماني سنوات من حرب مدمرة أرهقت الثورة الفتية وكادت تطيح بأسسها وسط ”تآمر عالمي” عليها كان وما يزال يشكل الهاجس الأقوى والأخطر لدى النخب الحاكمة في طهران بجناحيها المحافظ والإصلاحي على حد سواء.
ثمة نظرية لا يعوزها الكثير من الدقة تنبني على أن خصوم إيران (إسرائيل، على وجه التحديد) كانوا يتمنون إعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد لفترة رئاسية ثانية، وبالتالي استمرار النهج الإيراني المتشدد لتسويغ استمرار المواجهة مع المشروع النووي الإيراني والبناء على ”أخطاره” المحتملة على الأمن والسلم الإقليميين والدوليين.
والأرجح أن ملايين الناخبين الإيرانيين الذين منحوا أصواتهم للمرشح الاصلاحي مير حسين موسوي أرادوا التعبير عن مخاوفهم من استدراج القوة الإيرانية الصاعدة في المنطقة إلى أفخاخ المواجهة العسكرية تحت غطاء الطموحات النووية السرية والإمبراطورية التي تتخطى حدود النفوذ الجغرافي المقبول في منطقتي الخليج وآسيا الوسطى، وصولاً إلى شواطئ المتوسط وصعوداً نحو حدود المغرب العربي الذي كثرت في الآونة الأخيرة الاتهامات بمحاولة ”تشييعه” مما حدا ببعض بلدانه (المغرب) إلى منع ”التبشير” بالمذاهب الاسلامية الأخرى وتكريس ”مذهب الدولة” بنصوص قانونية. ليس بعيداً عن هذا المنحى أيضاً ما صرح به شيخ الأزهر قبل ايام قليلة حول رفض مصر للمذهب الشيعي وعدم الاعتراف بوجوده في دولة ”كانت وستظل على مذهب أهل السنة والجماعة” وفق تأكيد المشيخة الأزهرية.
ولقد أبرزت الانتخابات الايرانية الأخيرة إلى حيز العلن كمّ التحديات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي يواجهها النظام الإيراني بصورة غير مسبوقة منذ قيام الثورة قبل نحو ثلاثين عاماً، مما يجعلها تكافح للدفاع عن حدود نفوذها الطبيعي في المدى الجغرافي المعترف به ضمناً من قبل الأميركيين في كل من العراق وأفغانستان.
لقد قدمت الإدارة الأميركية الجمهورية السابقة ”خدمة تاريخية” لنظام الثورة الإيرانية بإسقاط نظامين من ألد أعدائها هما نظاما حركة طالبان وصدام حسين. لكن لم يكن بمقدور إيران حتى الآن صرف هذه الخدمة في سوق النفوذ السياسي، وهنا يكمن جوهر الخلاف الحقيقي بين طهران وواشنطن الذي جاءت الانتخابات الإيرانية الأخيرة بنتائجها لترسم له إطاراً واضحاً بعدما وفرت الانتخابات الرئاسية الأميركية فرصة لانفتاح أميركي على إيران ومباشرة دبلوماسية الحوار معها ومحاولة استنفاد كل الوسائل قبل الوصول الى مواجهة عسكرية أظهرت الانتخابات الإيرانية أن ملايين الإيرانيين لا يرغبون في خوضها. لكن ما أسلف لا يعني بالضرورة انتهاء الطموح الإيراني بمد نفوذه إلى المدى الإقليمي، وتتويج جهود السنوات الأربع المنصرمة من عهد نجاد بمكاسب ملموسة.
ويبقى السؤال، على ضوء الأزمة الداخلية الناشبة في إيران: هل سيكون بمقدور نجاد ”الثاني” المدعوم بقوة من سلطة المرشد الأعلى الوصول مع الإدارة الأميركية الساعية إلى الانكفاء عن أكثر من منطقة في العالمين العربي والإسلامي إلى خارطة نفوذ إيرانية مقبولة في تلك المناطق، وما هي حدود تلك الخارطة وما هي الأثمان التي يجب على إيران أن تسددها على طريق الوصول إلى تلك ”الصفقة الكبرى” التي ظل الحديث عنها مرافقاً للتطورات الدراماتيكية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية وتحديداً منذ أن جاورت القوة العظمى الحدود الجغرافية الشرقية والغربية لنظام ظل شعاره الأرفع منذ ثلاثين عاماً ”الموت لأميركا”.
هذا الشعار الذي هتف به ملايين الايرانيين في المناسبات البارزة التي يحييها نظام الثورة، يبدو أنه قد فقد الكثير من بريقه، وكان أمراً ذا مغزى كبير أن تُرفع في التظاهرات الحاشدة والغاضبة التي أعقبت الانتخابات الإيرانية شعارات من نوع ”فليسقط الديكتاتور”.
لعل هذه التطورات الإيرانية كفيلة بإعادة النظر في المخططات الدولية لفرض المزيد من الحصار على شعب يجاهر بقوة بالمطالبة بالتغيير.. لعله أيضاً يعدل من خطط كانت ولا تزال موضوعة لشن حرب على تلك الثورة التي عاشت منذ ثلاثين سنة ولاتزال هواجس الأخطار على نظامها.
Leave a Reply