يبدو المشهد مظلما لدرجة ترغم المرء على تبني قناعة ليس فيها أثر لخيط أبيض، يستطيع من خلاله تحديد موضع الخطوة الأولى للسير في طريق توصله لنقطة تفاهم، تقنع الناس بحتمية اجتثاث تلك الممارسة السلبية، التي صارت معلما من معالم الولاء المطلق للحاكم الواجب وضع صورته (المتعددة الأشكال والألوان) في كل شبر من تراب الوطن، المقزّم بأرضه وشعبه وتاريخه في صورة القائد الرمز، والمنقذ المخلّص الذي ليس له بديل في أوساط ما يزيد عن ٢٢ مليون نسمة، وكأنه بحسب تلك ”السخافة الأمنية” قد منح الخلود دون سائر البشر، مع أنه مثلهم تماما سينتهي عمره المكتوب لحظة وصول عزرائيل ليغادر ويبقى الوطن شامخا بجباله الشماء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تنوعت الألقاب وتشكلت الصفات واختلفت الأسماء والمزايا، المفروض قولها بفخر وأنفة قبل نطق إسمه الكامل، ثم تزيين ذلك بديباجة ”حفظه الله ورعاه” لتكتمل معالم الولاء له وحده في الدنيا دون سواه، لا يشاركه أحد من قريب أو بعيد، لأنه بحسب مراسيم الطاعة فرد عجزت الأمهات ولادة مثله في زمننا، لحكمة إلهية أوجدته منفردا من بين كل الناس، ليسخر بإنفرادته تلك لقيادة الشعب، حسب قول شاعر ذات أمسية ولاء لفخامة المنفرد الذي أتقن استخدام قرابين الطائعين لبسط نفوذه على الجميع.
صورته اليوم.. فن آخر من فنون الولاء، وكم يكون الفن عميقا عند الإجتهاد حدّ ”التعبد” في ابتكار عبارات تمنح القائد العظيم جزءا يسيرا من حقه، لذلك لا غرابة أبدا وصورته (حفظه الله ورعاه) مذيلة بعبارة ”أنت خيارنا” بفتح الخاء لا بكسره، ولإثبات مصداقية ذلك التوجه المستنبط من الإيمان بمعجزة ”المنفرد” جائت عبارة أخرى، كانت في قسوتها أشدّ وأقوى من معالم الفقر والضياع والمرض والفوضى وقتل أحلام وآمال البسطاء وما أكثرهم، لتبدو منفردة كالمنفرد نفسه، إذ لم يسبق لأحد قبله ومعه شرف نيلها والحصول عليها.
”هنيئا لشعب أنت قائده..” جملة كتبت تحت صورة عملاقة، ولسوء المشهد كان أمامها العديد من الأطفال الناظرين نحوها، بعيون خالية من الأمل، وأجساد لم تكف الثياب لدرء نحافتها، بينما أغلب الأقدام الصغيرة تفتقد الأحذية لتحميها من حرقة الأتربة حتى تطول فترة التحمل والنظر إلى الزعيم.
”هنيئا لشعب أنت قائده..” تهنئة خصها أهل الولاء لشعب فتك به داء الوصول المنتشر في عقول ونفوس المرتزقة المنبطحين أمام أبواب وبلاط الصالح، المتلذذ على ما يبدو بانهيار قيم المجتمع التي بدأ خاصته وبطانته في تفكيكها رغبة في المزيد من المتساقطين أمام أبوابه وعلى بلاط قصره ودار رئاسته، العارفين بمدى تأثير صورته وتعليقها في منازلهم ومقرات عملهم، ولصقها في زجاج سياراتهم، وقبل ذلك القسم بأنها ساكنة في قلوبهم، طمعا في قبول أصول ونوافل ولائهم وطاعاتهم، ومن ثم توزيعها في أي مكان يعلموه حتى تنطبع في أذهان الجماهير المتعلقة (حسب التقارير) بقائدها ورمزها المتواجد في كل مكان.
صورته أمامك أينما ذهبت، لعلك من خلالها تقنع نفسك أن هنالك منجزات، حتى أنك من كثرة الصور تنسى أن تسأل نفسك.. لماذا كل هذا ومن يدفع التكاليف وكم التكلفة ومن المستفيد؟.
سيقنعك الراسخون في النفاق والتزلف، أننا كشعب استفدنا من صوره المليونية المنتشرة في الوطن، فيكفي أن ”حركة التطور العملاقة القائمة” تتم تحت بصره وعينيه، والشاهد على ذلك الملعب الرياضي في العاصمة صنعاء، المتوج بصورة عملاقة للقائد الملوح بيده لجماهير شعبه الوفي، وفاء ذلك المعلق (على مباراة خسرها منتخبنا كالعادة) وهو يشارك أيضا في سباق انتقاء كلمات الولاء للباني العظيم الذي منح الشباب والرياضيين تكريما خاصا لحظة سماحه بوضع صورته المعبرة عن عظمة الوطن؟! الكلام للمعلق طبعا.
الفقر والجوع وانعدام أسس الحياة البسيطة، وشعور ما يقول لك في هدوء.. لو كان في برنامجه الف صورة لكل مواطن لصدق!! أسباب تدفعك للحديث مع نفسك والآخرين عن القيمة المرجوة من تلك الصور، وهل بلغنا من الترف حدا يجعلنا نستهتر بالمال لنصرفه في الطباعة والتعليق؟ وهنا تقول مبالغا.. لو كنا أغنياء ومترفين ما تضايقنا من وضع وتوزيع صورته بتلك الطريقة، لأننا سنعتبر ذلك وفاءا لقائدنا وردا لمحاسنه التي وفرت لشعبنا كل متطلباته، لكننا للأسف نكابد قسوة الحياة ونعاني، ليس من نقص حاد في أداء وزاراتنا الخدمية، بل تنعدم خدماتها التي يجب تقديمها للمواطنين، فماذا لو تم ضخ أموال التصوير في حساب الشعب المنهك؟ هل ذلك سيعين بطوننا الخاوية، ويحذي الأقدام الحافية، ويكسو الأجساد العارية، لنتمكن بفوائدها من النظر بوفاء لصوره العملاقة المنصوبة من لقمة عيشنا في شوارعنا الترابية الخالية من الإنارة..
الصورة أيضا، حجزت لنفسها مكانا مميزا في قطار التوريث، لتمكيجه بحضورها المستقدم من ذخيرة المستقبل، وكان اهل الولاء بذلك يربطون الجيل بقائده حتى لا يكفرون بمنجزاته المتواجدة في طفولتهم!! ولهذا يحملون صورته فوق رؤوسهم ويضعونها على صدورهم، ليثبتوا له.. أنه وليس هم.. إستراتيجية المستقبل.
في المكاتب والسيارات، على الرؤوس والصدور، في شاشات التليفونات والخواتم والأقلام والساعات، فوق أسطح المباني تنتصب صوره المضيئة، وعلى حبال تنشيف الملابس رصّت صوره جنبا إلى جنب، على لوحات الإعلانات وأعمدة الكهرباء والمحلات، في التلفزيون والصحف والمجلات، في مكاتب الوزارات والهيئات الحكومية، في منازل ومقايل الوزراء والموظفين والراغبين في الوصول، على قمم الجبال ومداخل ومخارج المدن، وفي وفي، وهنا وهناك، تلتقي بصوره المليونية بأشكالها المتنوعة، فتارة بالملابس الأجنبية الباهظة الثمن، وأخرى بالزي الوطني المصنوع من القماش الغالي، تراه به ممتطيا صهوة الحصان وواضعا نظاراته الشمسية حفاظا على عينيه الغاليتين من الغبار، ولحظة رغبته في التهديد والوعيد تلتقي به مرتديا في الصورة بدلته العسكرية، وعند عودته لمعسكر السلام تلتقي به مصافحا الشعب ومستقبلا الأوفياء، ومقبّلا جيل المستقبل الذي يضع على عنقه وكتفيه ورود الوطن وفله وأزهاره.
هكذا هو الوفاء (المصلحي المؤقت) للقائد، وهكذا ضاعت البلاد داخل صورة حملت في برويزتها قصة وطن صار حطاما بتاريخه ومجده وحضارته، يوم أن عاد برغبة وتخطيط أهل الولاء والبلاط والمرتزقة، لممارسة طقوس الجاهلية التي غدت الوسيلة الوحيدة والأسرع للوصول نحو الآمال وتحقيق الأحلام الشخصية.
Leave a Reply