لعلها أكثر اللحظات الإقليمية مؤاتاة للبنان، الخارج بأقل الخسائر السياسية من انتخابات نيابية مرت بهدوء، وبأقل قدر من المشاكل، لكي يحصن استقراره الداخلي، مستفيداً من المناخات الإقليمية والدولية الإيجابية التي تؤشر لبداية مرحلة جديدة في المنطقة.
من أبرز إرهاصات هذه المرحلة انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من المدن العراقية تمهيداً لإنهاء هذا الاحتلال في العام ٢٠١١ كما تعهد الرئيس باراك أوباما، والجهود الأميركية المبذولة لصفقة مع إسرائيل أو لفتح ثغرة في جدار التعنت الإسرائيلي وعنوانه الأبرز، مشكلة الاستيطان لتمكين خطة الرئيس الأميركي لإحياء عملية السلام من الانطلاق.
ويبدو من الغبن بالنسبة للبنانيين بكل أطيافهم، ومن الغباء بالنسبة للطبقة السياسية المختصمة حول عناوين وشعارات منتفخة أكثر من قدرة لبنان على تحملها، أن تفوت الفرصة النادرة المتاحة أمام لبنان لالتقاط أنفاسه في مرحلة من إعادة مراجعة السياسات بدءاً من الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ووصولاً إلى إيران، اللاعب الإقليمي الذي أدرك بعد خضة الانتخابات الرئاسية الأخيرة والخطاب الأميركي المنفتح الذي وجهه الرئيس أوباما إلى نظام الثورة الإسلامية، أن الاستمرار في نهج التشدد في الملفات الإقليمية سيعود بالضرر على جهود طهران من أجل تحقيق نفوذ معقول ومعترف به في مداها ”الحيوي ”.
فإيران بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة لن تكون على الأرجح إيران ما قبلها، رغم التجديد لرئيسها المتشدد المنسجم مع خط المرشد الأعلى إلى أبعد الحدود والذي كان يهدف إلى تمكين الموقف الإيراني في الحوار المقبل مع الإدارة الأميركية التي نفضت يديها من الإرث الثقيل للإدارة الجمهورية السابقة، فكان خطاب أوباما الموجه إلى العالم الإسلامي ومنه على الأخص إيران، البوصلة التي حددت توجهات السياسة الأميركية في تلك المنطقة من العالم، والتي مهما جهد المتشددون سواء في طهران أو غيرها من عواصم ”الممانعة ” في تجاهله والقفز فوقه، إلا أنهم مضطرون لتعامل مختلف مع التوجه الأميركي الجديد المبني على تغيير حقيقي ليس فقط في الإدارة، بل في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الأزمات العالمية، على وقع الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بها وتنعكس على العالم برمته.
فهذه التطورات والأجواء الإقليمية والدولية التي تمثل تحولات ينبغي على كل المعنيين بأزمات المنطقة قراءتها قراءة صائبة، تعني لبنان بصورة كبيرة، كونه الساحة التي ظلت تعتمل فوقها كل الخلافات والصراعات الإقليمية والدولية على مدى العقود الأربعة الماضية.
وما يعني لبنان على الأخص هي بشائر إعادة ترميم العلاقات السورية-السعودية والانطلاق منها أو بموازاتها لإعادة الحرارة إلى العلاقة بين دمشق والقاهرة. ويمثل هذا التطور الإيجابي في العلاقة بين الرياض ودمشق والذي ترجمته مؤخراً الزيارة ”العلنية ” لموفد الملك الامير عبدالعزيز بن عبدالله إلى دمشق وما يتواتر من أنباء عن قرب زيارة الملك عبدالله إلى دمشق لإضفاء اللمسة النهائية على عودة العلاقات بين البلدين إلى وضعها الطبيعي وتتويجها بقمة قد يشارك فيها الرئيس اللبناني وربما رئيس الحكومة (إذا نجح في تشكيلها) سعد الحريري.
فالاستقرار اللبناني بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، والذي تعرض لبعض الاهتزازات غير العنيفة في رسائل متبادلة على متن إعادة انتخاب الرئيس نبيه بري رئيساً لمجلس النواب وتكليف النائب سعد الحريري بتشكيل الحكومة، هذا الاستقرار الذي بدا بحاجة إلى رعاية بديلة لاتفاق الدوحة المنتهي الصلاحية والمفعول، يتكفل به، على ما يبدو، التعاون السوري-السعودي المتجدد، عربياً، والولايات المتحدة مع فرنسا والاتحاد الأوروبي دولياً، لضمان عدم اهتزازه ولتفادي تداعيات سلبية كبيرة على المرحلة الجديدة التي تطبع الأجواء الإقليمية.
تبرز هنا أهمية قرار الإدارة الأميركية بإعادة السفير إلى دمشق، و ”الغزل ” الفرنسي المفرط بـ ”الدور الإيجابي ” الذي مارسته دمشق على الساحتين العراقية واللبنانية في الأشهر الأخيرة.
ولا يخفى أن الإدارة الأميركية متوجسة من خطوة إسرائيلية رعناء للهروب إلى الأمام وللتفلت من الضغوط الأميركية بشأن رؤية ”حل الدولتين ” وقد تحاول حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل من خلالها خلط الأوراق الإقليمية وإشعال فتائل حروب موضعية ومتنقلة، ويكون مسرحها الأكثر إغراء هو المسرح اللبناني الذي هيأته انقسامات وصراعات السنوات القليلة الماضية لأخطر أنواع الصراعات الأهلية التي رأينا ”نموذجا ” عنها في العراق ولا تزال أخطارها ماثلة، ويعطي الشارع اللبناني الإشارة الواضحة إلى استعداده لاحتضانها إذا أخفق القيمون على الميلشيات المذهبية في ضبط حركته، أو توهموا أن استخدامه يفي بأغراض تعزيز ”مواقعهم ” وهذا في منتهى الخطورة والمغامرة التي يعرف كيف تبدأ، ولكن ليس بإمكان أحد، حتى القيمين على الشوارع الطائفية والمذهبية التكهن بما قد يفضي إليه من أهوال وأخطار على الكيان اللبناني وأسباب وجوده واستمراره.
ويرتسم السؤال هنا: هل ينبري ”حزب الله ” رأس حربة المعارضة اللبنانية، إلى ترجمة مواقفه المرنة إعلامياً بتسهيل مهمة النائب سعد الحريري، الذي يحاول طمأنة الحزب إلى أن حكومته العتيدة ستبتعد عن إثارة قضية سلاحه خارج الإطار المتوافق عليه وهو طاولة الحوار الوطني؟
وهل تنجح الجهود العربية (السورية-السعودية) والدولية في إخراج التشكيلة الحكومية اللبنانية من عنق زجاجة ”الثلث الضامن ” بصيغة خلاقة تمنح رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان صفة ”الضامن ” والحكم بين طرفي حكومة الوحدة الوطنية المنشودة أم تنتهي الجهود المبذولة بقيام حكومة ”انتقام وطني ” تحول مجلس الوزراء إلى مساحة نزاع ”من فوق ” لا يلبث أن ينزل إلى الشارع المستنفر والمعبأ والمتوتر في أي لحظة؟
لقد بذل الرئيس المكلف حتى الآن جهداً ”إعلاميا ” كبيراً لفتح نوافذ وأبواب كانت مغلقة، وأرسل إشارات إيجابية إلى دمشق حول حرصه على علاقة طبيعية بين الدولتين واستعداده للانفتاح على كل ما يحقق تقدماً في هذه العلاقة، وكانت دمشق قد أرسلت إشارت مشجعة عبر ”ترحيبها ” بنتائج الانتخابات اللبنانية ومن ثم بتكليف الحريري رئاسة الحكومة، لكن يبقى القلق من أدوار المتضررين إذا لم يتمكنوا من عرقلة تشكيل حكومة توافقية، والخوف إذا أجهضت جهود المصالحة الفلسطينة في مرحلتها الأخيرة، وإذا لم تصمد ساحات المدن العراقية المخلاة من ”حراس الأمن ” الأميركيين أمام إغواءات الفتنة المتمادية، وتمكن المتضررون من إضرام نار الفتنة المذهبية في العراق على نطاق أوسع، وأعيد بالتالي لبنان إلى دوره ”التقليدي ”، في تظهير النزاعات والصراعات فوق أرضه.
يسير النائب سعد الحريري في حقل من الألغام حاملاً خريطة للاستدلال على المسالك الآمنة، ويتسلح بإرادة عربية ودولية قيد التبلور لمساعدته على الخروج بلبنان من نفق الانتظار المقلق والمعتم، لكن الحريري يدرك أن ثمة بقعاً غامضة على الأرض التي يسير عليها وقد يكون انفجار ألغامها كفيلاً بالإطاحة بكل جهوده وإعادة لبنان إلى أول النفق.
Leave a Reply