تعيش القوى السياسية اللبنانية بمختلف انتماءاتها أزمات تختلف باختلاف موقع كل فريق سياسي وتشكل بمجملها الأزمة اللبنانية الكبرى. ويمكن اختصار تلك الأزمات بالأزمتين الكبرَيين اللتين يعيشهما فريقا ١٤ و ٨ آذار. فالأول يعاني من فقدان المناعة الوحدوية التي حاول النائب سعد الحريري إنقاذها عبر تشكيل تكتل ”لبنان أولا ” فسارع النائب وليد جنبلاط إلى تحويل ”لبنان أولا ” إلى نقطة خلاف إضافية، جاعلاً منها منصة هجوم على خيارات قوى ١٤ آذار المتعلقة بعروبة لبنان وبالقضية الفلسطينية والمتعلقة بالشأن الاقتصادي الذي جعل جنبلاط منه عنواناً عريضاً اشترطه للمشاركة في الحكومة الجديدة المزمع تشكيلها. فالفرحة العارمة التي عمت تيار المستقبل إثر فوزه بالانتخابات النيابية ما لبثت أن تبخرت تحت وطأة فرض الرئيس نبيه بري مرشحاً وحيداً لرئاسة المجلس مع ما رافق ذلك من توترات في الشارع البيروتي جعلت تيار المستقبل أمام حقيقة مرّة، وهي أنه مهما زادت أكثريته السياسية فإنها تبقى بلا مفاعيل حقيقية على الأرض، ولا يمكن توظيفها سياسياً في الداخل إلا بهامش ضيق تتحكم به القوى الخارجية. وإذا كانت هذه الأخيرة في موقع لا تحسد عليه وتعاني من إخفاقات سياسية كبيرة نتيجة الرهان على المشروع الأميركي في المنطقة الذي قاده الرئيس جورج بوش وتم رميه في سلة المهملات مع صعود الرئيس باراك أوباما إلى سدة البيت الأبيض، فإنها تجد نفسها أمام خيار المساومة على ما غنمته ١٤ آذار في الانتخابات الأخيرة انسجاماً مع أجندة إقليمية كانت قد بدأت تتبلور صورتها في قمة الكويت لناحية تنظيم الخلافات السياسية وصولاً إلى رسم تسويات يعلم القيمون عليها في السعودية وفي الدول التي تقف خلفها، بأنها -أي تلك التسويات- لا يمكن لها إلا أن تراعي المخاوف السورية، لا بل تبددها وتضمن الحد الأدنى من المصالح السورية في لبنان، إضافة إلى الهاجس الذي يسكن رأس ”حزب الله ”، هاجس المقاومة وسلاحها وعدوه المتربص له عند كل منعطف، وهو الأمر الخارج عن إرادة المفاوض السوري لعجزه عن الضغط في موضوع مصيري ومتشعّب يتعلق بالمصالح الاستراتيجية لـ ”حزب الله ” والدول الداعمة له، من غير أن يغيب عن الذاكرة السورية بأن ”حزب الله ” شاكس سياساتها في لبنان وخاض بوجهها حروباً عسكرية في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي.
وفي ظل التسوية المرحلية التي يُعمل عليها في تشكيل الحكومة الجديدة يُستكشف عمق المأزق الذي تعاني منه قوى ١٤ آذار على صعيد التوزيع الحكومي أيا تكن التسوية، سواء بثلث معطل أم بدونه، لتجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما حكومة وفاقية تسووية تخضع للتقسيم الثلاثي بينها وبين رئيس الجمهوية وقوى ٨ آذار، وحينها لن تستطيع ١٤ آذار أن تمنح كل مركباتها ما تشتهيه وتتمناه من مقاعد وزارية، وتحديداً بشقها المسيحي. وإما حكومة من لون واحد وخارج السياق الإقليمي مع ما يعني ذلك من تفجير للوضع من جديد، وهو ما تستبعده الوقائع والمعطيات والظروف المحيطة…
أما مأزق فريق ٨ آذار فينبع أساساً من خسارته للانتخابات النيابية التي بنى عليها آمالاً أردته أرضاً عندما خابت، ووجد نفسه أمام معادلة كان قد سعى لتغييرها على مدى السنوات الثلاث المنصرمة، وفي نهاية المطاف سقط مشروع المعارضة الإصلاحي، وسقط ما كان ينادي به الجنرال عون من محاسبة وتغيير، لا بل تحول المأزق ”المعارضاتي ” إلى مأزق الجنرال عون الذي تجاوز مرحلة ما بعد الانتخابات مثخناً بالجراح التي أحدثتها به قوى المال والسلطة، ليصل إلى مجلس ٢٠٠٩ ونسبة تمثيله المسيحي لا تزيد عن الخمسين بالمئة إلا قليلاً بعد أن طوبه الشارع المسيحي زعيماً أوحد في انتخابات ٢٠٠٥.
بالمحصلة وجدت المعارضة نفسها أمام خسارة من خارج السياق العام، بما لا يتماشى مع التطور الإقليمي الإيجابي الذي حققته كل من إيران وسوريا بعد حرب غزة، ولا يتماهى مع حجم العظمة العسكرية التي وصلت إليها المقاومة، وكانت تنتظر وضع اللمسات الأخيرة على نهاية مسلسل المطالبة بنزع سلاحها وصولاً إلى البدء باستثماره في سياسات استراتيجية تصب في خدمة مشروع الممانعة والمقاومة بشكل رسمي في الأروقة الدولية.
وفي الوقت الذي تنشط فيه الدبلوماسية السعودية على خط بيروت – دمشق وتعمل على إنزال النائب سعد الحريري بالمظلة الآمنة رئيساً للحكومة تحت مظلة عربية وإقليمية ودولية، فإن كثيراً من المواقع التي يُعتقد أن لسوريا تأثير فيها لن تكون طيّعة ولن يكون بإمكان سوريا أن تملي عليها مشيئتها، خاصة إذا كانت من فصيلة سياسية صلبة ولها تاريخها.
هذا ما يتصرف على أساسه الجنرال عون الذي يضع سقفاً عالياً لمشاركته في الحكومة، و ”حزب الله ” يتمسك بمشاركة الجنرال، والنائب الحريري يريد مشاركة ”حزب الله ” ويعلم بأنه لن تكون هناك حكومة مستقيمة ومستقرة بدون الحزب، ومسيحيو ١٤ آذار يريدون استبعاد الجنرال، ورئيس الجمهورية يريد حصة الأسد، والنائب جنبلاط يريد تعويض خسائره النيابية بزيادة حصته الوزارية، وهكذا دواليك..
Leave a Reply