تظهر مسألة تشكيل الحكومة اللبنانية بعد الانتخابات الأخيرة، قدراً كبيراً من انعدام الوزن الداخلي وفقدان ناصية القرار المستقل ولو بالحدود الدنيا لدى كل الأفرقاء المعنيين بها، فائزين في الانتخابات وخاسرين على حد سواء. بل كادت تلك الانتخابات تبدو كأنها لم تجرِ أصلاً بالنظر إلى انعدام مفاعليها الداخلية وتوجه الفائزين والخاسرين كلٌ إلى مرجعيته الإقليمية، في دمشق والرياض، لاستطلاع ما سترسو عليه نتائج الاتصالات السورية-السعودية كي يبنى على الشيء الإقليمي مقتضاه الداخلي.
معذور رئيس الحكومة المكلف النائب سعد الحريري إن حاول إقناع اللبنانيين بأن أمر التأليف يعود إلى اللبنانيين دون سواهم، فكيف يستوي إقراره بمرجعية القرار الخارجي وقد أطلق على كتلته النيابية العريضة اسم “تكتل لبنان أولاً”. ومعذور أيضاً “حزب الله” إن أوحى أو حاول الإيحاء أن أمر المعارضة التي يقودها، في يدها ولا أحد يستطيع النطق باسمها أو التصرف نيابة عنها خارج الحدود، وإلا ما معنى الإصرار لدى هذه المعارضة على أن يزور الرئيس المكلف العاصمة السورية قبل التأليف والإيحاء بأن معضلة التأليف سوف تزول بمجرد إتمام هذه الزيارة!
ولقد عبر رئيس المجلس النيابي نبيه بري عن حرج الطرفين موالاة ومعارضة عندما رأى أن فترة السماح للتأليف لم تتعد العشرة أيام وأن حكومة الرئيس السنيورة استغرق تأليفها ٥٢ يوماً، لذا قليلاً من الانتظار، يرى الرئيس بري، الذي آمن ولم يزل بمعادلة سين-سين، وكان صائباً إلى أبعد الحدود في رهانه على ائتلاف القلوب الإقليمية، قبل توليف القلوب اللبنانية.
يدرك الرئيس المكلف سعد الحريري أن انتقاله إلى السراي مسألة وقت وأن العصي التي توضع في دواليب جهوده ما هي إلا لعبة لهو داخلي في الوقت الاقليمي المستقطع يجب أن يستنفد مداه، ولكي يفهم اللبنانيون من كل الأطراف أنهم لم يبلغوا بعد “سن النضج”السياسي، برأي القوى الإقليمية المؤثرة التي لاتزال ترى في لبنان ملعباً لممارسة الضغوط المتبادلة واستدراج العروض من هنا، والتنازلات من هناك، للوصول إلى تفاهمات جديدة أو استعادة تفاهمات قديمة عبر خطوط التماس اللبنانية، التي يتقن اللبنانيون من كل الطوائف لعبتها، ويوفرون مساحة واسعة للخارج من أجل المناورة على ضفتيها، ولو دفع اللبنانيون من استقرارهم وأمنهم واقتصادهم أثماناً يومية لها.
ولو سأل لبناني “عادي” نفسه السؤال التالي: أين تلك الملايين التي “ضخها” كل من تحالف ١٤ و٨ آذار في الشارع اللبناني خلال سنوات الأزمة الأربع الماضية؟ وأين تلك الشعارات التي رفعت، من حرية وسيادة واستقلال وممانعة ومحاسبة وإصلاح وتغيير، ألخ..
ها نحن، بكل وضوح، أمام استسلام لبناني شامل لإرادة خارجية ستختار للبنانيين تركيبة حكومتهم وتوزيع حقائبها بين الرابحين والخاسرين، فيما لا يتعب السياسيون مما يصفونه بـ “حكومة الوحدة الوطنية” أو ”الشراكة الحقيقية” سواء بما يطلق عليه صيغة “الثلث المعطل” أو صيغة “الضمانات” أو “النسبية” في التمثيل الحكومي، وهذه الأخيرة من أطرف البدع التي لا يزال “يؤمن” بها ويصر عليها قطب المعارضة المسيحي الجنرال ميشال عون، الذي يعيش هذه الآونة حالة “انتفاض” على التدخل الخارجي في الشأن الحكومي، فيما حليفه الأول وصاحب الكلمة الفصل في تحالف المعارضة “حزب الله” يكثر من التصريحات المرنة المعبرة عن الاستعداد لتسهيل مهمة التأليف أمام زعيم الأغلبية النيابية، دون الإشارة إلى أية صيغة بعينها، ولا حتى “الثلث الضامن”الذي خاض من أجل تحقيقه معارك داخلية كبرى كادت، لولا الإمساك الإقليمي بتوجيه دفة الأمور، أن تطيح ما تبقى من مرتكزات وأسس يقوم عليها الكيان اللبناني.
ربما لا يغيب عن بال الجنرال عون الذي احتفظ بتمثيل مسيحي لا غبار عليه بنتيجة الانتخابات الأخيرة، وإن يكن قد تراجع كثيراً عن انتخابات العام ٢٠٠٥، أن لبنان، منذ الغزو الأميركي للعراق، والخروج العسكري السوري منه، واغتيال رئيس وزارئه الأسبق الشهيد رفيق الحريري، بات “رهين المحبسين” السني والشيعي، وأن أية انتكاسة أمنية أو سياسية كفيلة بالتحول إلى صراع مذهبي لا أحد يستطيع تقدير مداه وأهواله المحتملة على البلد الصغير.
وإذ لا يسع المرء إلا أن يغبط ويقدر تلك البيئة المسيحية الدينامية التي يتحرك فوقها الجنرال ميشال عون، والتي تتمايز عن البيئات الطائفية والمذهبية الأخرى في البلاد التي جرى إقفالها والقبض على مفاتيحها من قبل أحزاب مذهبية ألغت كل أوجه التنوع فيها، إلا أن حقائق الأمور المرة تفيد بأن ما تبقى من وجود مسيحي في لبنان سيكون عرضة للتبديد على هامش أي صراع سني- وشيعي. وقد لا يكون الجنرال عون، الراغب بقوة في استعادة دور قديم لرئاسة الجمهورية، غافلاً عن هذه الحقائق وعن أن “ورقة تفاهمه” مع “حزب الله”، رغم كل إيجابياتها، لم تعد في أي وقت كونها قطعة من “الديكور الجميل” في معرض التنافس السني-الشيعي الذي إتخذ في لحظات سياسية طابعاً دموياً كان ينذر بتحولات كارثية، لو أراد الممسكون بمفاصل الصراع الإقليمي الأكبر أن ينهض غول الفتنة من سباته ويجول في بلد الغرائز الهشة التي أخرجها ساسة المذاهب من قعر التاريخ وأجلسوها فوق رؤوس تظاهراتهم المليونية “الطيبة الذكر”.
نعم، يعرف الجنرال عون أن الحكومة اللبنانية سوف تتشكل في الخارج ولذا، فهو “غاضب”، وغضبه مبرر ويشاطره فيه جزء كبير من اللبنانيين مسيحيين ومسلمين، لكن ماذا فعل الجنرال عون خلال السنوات القليلة الماضية غير السكوت عن ارتهان القرار اللبناني للخارج؟ ولماذا أصر ووافق على قانون انتخابي فاقم الانقسام وكرس فدرالية الطوائف والمذاهب اللبنانية التي يتم التفاوض باسمها في هذه الآونة لتأليف حكومة “فدرالية” تعكس الواقع القائم. وماذا ستجلب ”النسبية” في التمثيل الحكومي للجنرال إذا استجيب لها، غير توزير المقربين. واين الوعود بمحاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين وإحداث “التغيير والإصلاح” اللذين يحمل اسميهما تكتله النيابي.
لا نريد أن نسأل الجنرال لماذا يعيب على سعد الحريري الآن انفتاحه على “حزب الله” و”سوريا”، رغم فوزه في الانتخابات النيابية وتكريس زعامته لأكثريتها، فنحن لانزال نتذكر أن الجنرال عون ظل يبرر تحالفه مع “حزب الله” وانفتاحه على عدوه القديم ، النظام السوري “لأنه أصبح خارج لبنان”. من أجل مصلحة لبنانية، فلماذا لا تكون المصلحة اللبنانية أيضاً في انفتاح سعد الحريري على “حزب الله”ودمشق؟
نعم، لقد أصاب الجنرال عون في قوله إن سعد الحريري شريكي في الوطن، ويجب أن أتحدث إليه ويتحدث إلي عن الشأن الحكومي، “وهو أقرب إلي من أي عربي آخر”، وهذا وإن تناقض مع تصريحاته إبان الحملة الانتخابية عن قرب “دفن الحريرية” في لبنان، إلا أنه لا يلغي إيجابية موقفه المستجد التي يجب أن يعززها بتسهيل الشأن الحكومي دون “العودة إلى الخارج”ووضع ولو لبنة يتيمة لبنانية صرفة في جدار التأليف الحكومي.
هكذا فقط يستقيم منطق الجنرال قبل التأليف وبعده بصرف النظر عن “حصته” وحجمها، وبعيداً عن مقارنتها بحصص “الجهات الرسمية التي جربت حظها في الانتخابات”، في تسفيه متسرع لدور رئيس الجمهورية وموقع الرئاسة التي يحرص الجنرال على استعادة موقعها المؤثر وهيبتها، لكنه لا يفعل إلا أن ينكل بها سواء قصد ذلك أم لم يقصد.
لكنها اللعبة الداخلية اللبنانية التي لا تملك إلا اللغو والسفسطة في انتظار القرار الحاسم القادم عبر الحدود بكل أسف، بحكومة “إقليمية-دولية” نرجو أن يهنأ اللبنانيون بها أطول مدة ممكنة، قبل أن يعود بلدهم ساحة لتبادل الرسائل على وقع استمرار الأزمة الكبرى وتبادل أطرافها أدواراً خبرها اللبنانيون خمسة عشر سنة حرباً أهلية ولكنهم لا يتصرفون من وحي عبرها ودروسها!.
Leave a Reply