…”أنظروا الى البحر”. قالها بثقة من مكان لايعلمه الا الله والراسخون في أمنه، ذات يوم في مثل هذه الأيام عام 2006، ففاضت عبر هذه الكلمات البسيطة بحار من التغيير “التسونامي” الطافح بالعزة والشرف والكرامة بعد أحقاب من المرارة والهزيمة والنكسة وزعزعة الثقة بالنفس.
…”أنظروا الى السفينة كيف تحترق..”! يا الله كم ثأرت هذه الجملة لأجيال الهزيمة التي صدّقت حكامها أشباه الرجال القابعين على كراسي العجز والقمع والذين روجوا أن اسرائيل قدرنا وأن جيشها لايقهر وأننا كعرب أصبحنا عاجزين عن مقاومتها ولو بالكلام، إلى أن أنعم الله على هذه الأجيال لكي تر بأم عينها المغرورقة بدموع الفرح والنصر، كيف أن المدمرة الإسرائيلية “ساعر” التي كانت تعربد في أعراضنا وبحر عزتنا وتفتك بأهلنا أبان الأسبوع الأول من الحرب الإسرائيلية المجرمة على لبنان، أصيبت إصابة مباشرة في عرض البحر وكادت تغرق بعض مقتل بعد بحارتها. وهكذا بضربة واحدة منسقة بتوازن دقيق مع التسجيل الصوتي غرقت سنوات العار والشنار والإحباط والدونية الى الأبد!
لقد أضحى يوم اصابة “ساعر” مشبعاً برمزيته ودلالاته وأصبح شهر تموز 2006 هو الفصل مابين عصر وعصر ووصلت تفاعلاته الى مابعد.. بعد حيفا! فلأول مرة في التاريخ تقوم مقاومة شعبية برد إعتداء دولة من أقوى دول العالم، ذلك أن المقاومة عادة تقاتل المحتل في أراضيها وتجبره على الإنسحاب أما أن تواجه وترد إعتداء دولة مسلحة حتى أسنانها ومدعومة كونيا وعربيا ثم لاتكتف بهذا القدر بل “تتجرأ” على تكبيده خسارة منكرة فهذا، وأيم الله، إنجاز خارق للعادة حتى لانقول أنه نصر إلهي كي لايزعل فؤاد السنيورة وصغار “14 آذار”!
وللتدليل على حجم وجسامة هذا النصر ومدلولاته الإستراتيجية على مجمل الصراع التاريخي في المنطقة، أعود بالذاكرة الى أيام الطفولة حيث أن كاتب هذه السطور وعي منذ الصغر على جرائم اسرائيل الوحشية والبشعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني والمصري والأردني وإستباحة اسرائيل للبنان جواً وبحراً وبراً يوم كانت استراتيجية لبنان الدفاعية العظيمة في عهدة “المارونية السياسية” ورائدها بيار الجميل الجد، هذه الإستراتيجية التي لخصّها بالقول “ان قوة لبنان في ضعفه” الأمر الذي أعطى إسرائيل ضوءا أخضراً لكي تغير على لبنان ساعة تشاء فتغتال قادة المقاومة في قلب بيروت وتدمر مطار بيروت الدولي وطائراته في غارة ليلية ليلاء من دون حسيب أو رقيب أو رادع! لقد كنت أرى الرعب في عيون أطفال جيلنا، التي هرب منها النوم مذعورا ولم يعد، في منتصف ليالي الغارات التي كانت أصوات القصف فيها تأزّ أزاٍ وتحدث دوياً هائلاً. كما أذكر اننا في الحي الذي كنا نقطنه في برج البراجنة صبغ الأهالي ولمدة طويلة شبابيكهم ومصابيحهم الكهربائية باللون النيلي إتقاءاً للغارات الليلية الإسرائيلية، فكان هذا اللون تعبيراً عن حاضرهم ومستقبلهم “المنيّل بألف نيلة” كما يقول إخواننا المصريون!
أما اليوم، فهذه ذكريات لم نعد نذكرها بحزن وأسى لأنها تظهر لنا عظم المفارقة مع الأمس البغيض وتبين كيف تحقّق الثأر بالنصر المبين… لذلك فإن ذكرى حرب تموز هذا العام لها طعم خاص في لبنان الذي يستقبل حوالي المليوني سائح يتنشقون هواء الحرية ويتنعمون بشمس الإستقلال الحقيقي الذي إنتزعه شهداء المقاومة البواسل، لا إستقلال “ثورة بولتون” المزيّفة التي تتبجح بها جماعة “14 اذار” والتي رفعت فيها يوماً صور بشير الجميل وعقل هاشم جنباً الى جنب مع صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري وهو منهما براء (يا ترى ألا يتذكر هؤلاء أن الرئيس الحريري كان يعرف أن جعجع مسجون ولم يرد أن يفك أسره؟!).
ان التاريخ لن يرحم أولئك المتقاعسين والمتخاذلين والمتآمرين على المقاومة من عرب وفرقاء داخليين الذين سارعوا الى التبرؤ ونفض يدهم من المقاومة عند أول امتحان بل أطلقوا على المقاومين اسم المغامرين وتعهدوهم بالحساب العسير ثم ركبوا – متأخرين – موجة إدانة اسرائيل بعد أن تبين أن كفة المقاومة ستكون من الراجحين. ولن يرحم التاريخ تحفة جماعة “14 آذار” نائلة معوض، وهي تطالب بنزع سلاح المقاومة المنتصر لتوه في آخر أيام الجرائم الإسرائيلية في وقت لم تجف فيه بعد دماء الشهداء وشظايا أجساد أطفال قانا تعانق التراب والجدران العاملية. كما لن ينسى التاريخ أداء حكومة السنيورة المتواطىء – على أقل تقدير- في الأمم المتحدة أثناء العدوان حيث أرسلت سفيراَ من الدرجة العاشرة كأنها تفض خلافاَ على أفضلية المرورأو حين أوفدت طارق بن زياد (المتري) ليشيل “الزير من البير” فألقى خطابا فاشلا لم يصمد أمام سفير إسرائيل المجهّز بكل أنواع الدعم الحكومي والإعلامي.
وأن ننسى فلا ننسى كيف عوقبت المقاومة منذ دحر الإسرائيليين وحتى اليوم أولاً بنزع صفة النصرمنها بالرغم من إعتراف اسرائيل عبر تقرير “فينوغراد” والذي كرّر كلمة إخفاق وفشل 153 مرة! فالسنيورة مازال حتى اليوم يصرعلى أن المقاومة لم تنتصروفي آخر حديث صحافي أيام الهزيع الأخير من “حكومة الوحدة” التي ترأسها بعد مؤتمر الدوحة نجده يبدل من بعض جمله ويقول أن المقاومة “لم تربح الحرب”!! والسنيورة ليس مقتنعاً بهذه القناعة فحسب بل يريد أن يقلع الناس عن تصديق أن المقاومة ربحت الحرب، فخلال لقائه مع النائب جورج غالاوي بادره قبل السلام على الباب “كف عن القول أننا ربحنا الحرب؛ لقد خسرنا هذه الحرب”، وكان مستاءاً من النائب العمالي النصير للقضايا العربية الى درجة أنه ألغى واجب الضيافة العربية فلم يقدّم له حتى مجرد كوب من الماء! والحق يقال ان حديث السنيورة حديث يطول بدءاً من معارضته لإستعمال كلمة مقاومة في مؤتمر الخرطوم وصدامه مع الرئيس العماد إميل لحود، الى مراوغته في صياغة البيان الوزاري لحكومة مابعد الدوحة، الى إلغائه عيد التحرير في 25 أيار.. سيرة لا تشرف صاحبها.
والعقاب الثاني لـ”جريمة النصر” بحق المقاومة ظهر محلياً عن طريق إذكاء الفتنة المذهبية الذي هو نقطة ضعفها الوحيد وذلك لإلهائها عن الهدف الذي هو مبرر وجودها وعن كشف شبكات التجسس التي إينعت مؤخراً وحانت هرهرتها كأوراق الخريف، مما يشكل نصراً استراتيجياً جديداً ضد الإستخبارات الإسرائيلية التي كانت تعمل ليل نهارعلى إعادة ترميم شبكاتها وقدراتها مستفيدة من القضاء اللبناني “النزيه والعادل” الذي منح العملاء السابقين أحكاماً تخفيفية كأنهم إرتكبوا مخالفات سير لا مخالفات خيانة بحق وطنهم!! وبالمناسبة هذا القضاء “العادل” أطلق مؤخراً سراح السجين الفاسطيني البريء يوسف شعبان بعد 16 عاما فهطلت المدائح كالمطر على رئيس الجمهورية ووزير العدل لقيامهما بـ…”واجبهما”. لكن هؤلاء المداحين لا يدرون أنه فيما يتعلق بالقضاء اللبناني فالداخل فيه مفقود والخارج منه مولود فعلاً (طبعاً ماعدا سمير جعجع الذي أدين بجرم قتل الرئيس رشيد كرامي وداني شمعون فأصبحت “قضيته” دين وديدت “بطرك إنطاكية” الى أن خرج من السجن معززا مكرما بإستقبال عواصم العرب له وأعطي وزارة العدل.. فليحيا العدل!.. وللتوسع في مسألة “العدالة” اللبنانية يرجى الإطلاع على ملف الضباط الأربعة الذين قبعوا في السجن 4 سنوات من دون تهمة أو أدلة جنائية ماعدا التهمة السياسية!).
بالعودة الى قضية خائني الوطن في لبنان وتعامل القضاء معهم يجدر بنا إجراء مقارنة بسيطة مع القضاء الفرنسي وطريقة تصرف المقاومة الفرنسية مع العملاء إذ قامت هذه المقاومة بحبسهم لمدة طويلة وحلقت رؤوس المتعاملات ليكن عبرة لمن إعتبر. أما نحن في بلد “نيال من له مرقد عنزة فية”، فأن تلك المرأة التي أعدّت أطباقا شهية لشارون كما قال في مذكراته (شكرا أسعد أبو خليل) أصبحت مشرّعة مهمة لقوانين عصرية في البرلمان اللبناني ثم بعد أن أذّت قسطها للعلى سلّمت الراية لإبنها الذي “تعلّق” عليه الآمال الطوال!
لقد أظهر النظام اللبناني العفن والنظام العربي الرسمي انهما أكبر ناكري جميل في التاريخ من طريقة تصرفهما مع المقاومة اللبنانية التي اعطتهما معا أسباب القوة ومفتاح السيادة ومقومات العزة والشرف بعد الذل والمهانة وبدل أن يعزّز أسياد هذين النظامين هذه المقاومة ويفتخروا بها نراهم يستحون منها بل يحاربونها ويشهرون سلاح الفتنة المذهبية في وجهها ويصرون دائما على أن اسرائيل قامت بفعلتها بسبب خطف جندييها من أرض الجنوب وحين يأتي الحديث الى انتصار المقاومة يلوحون بالخسائر المادية الباهظة متغاضين عن تاريخ اسرائيل الأسود المليء بالإعتداءات الوحشية التي كانت تتم بذرائع وبدون ذرائع حتى قبل ولادة المقاومة بسنين. لقد أنهى جنرالات اسرائيل وهم يحيون ذكرة هزيمتهم، مقولة “14 آذار” بأن خطف الجنود الإسرائيليين قد أشعل الحرب. فها هو دان حالوتس يعترف بصراحة أن الحرب كان مخططا لها وبنك أهدافها كان جاهزا وان قرار الهجوم لم يتخذ مباشرة بسبب خطف الجنديين.
ان أسر الجنديين الإسرائيليين حصل في اللحظة غير المؤاتية لإسرائيل التي كانت تعد العدة ولكن جهوزيتها لم تكن قد اكتملت بعد وأن من تعم الله تعالى أن الخطف قد سرّع بالخطة الإسرائيلية الجهنمية التي لو حصلت بغتة لكانت أدت الى كارثة فعلية لكن الهجوم حصل عندما كانت المقاومة في أعلى جهوزيتها مما تسبّب بأخطاء استراتيجية إسرائيلية فادحة أدّت الى هزيمتها رغم تبرع بعض الساسة اللبنانيين، مكابرة، بمحاولة إعادة الإعتبار الى الجيش الإسرائيلي! فلأول مرة في تاريخها تجر اسرائيل الى معركة من دون توقيتها وتحرم فيها من عنصر الغدر والمفاجأة حسب عادتها في الحروب، ثم تتلقى صفعات المفاجآت الصاروخية وتنقل المعركة الى عقر “دارها” فلا عجب أن قادة اسرائيل مازالوا حتى اليوم يمحصون أسباب الخسارة رغم كلامهم المقهور عن “عودة الردع” ويتحضرون للجولة المقبلة التي قد تفاجأهم أكثر. فبعد كلام قادة اسرائيل هل من سبيل الى إقناع السنيورة وجعجع والجميل و”الماما” معوض؟
على من تقرأ مزاميرك ياحالوتس؟
Leave a Reply