بلغت المبادرات المقدمة لحل الأزمة اليمنية الشاملة منذ عدة سنوات حتى هذه اللحظة، رقما كبيرا من حيث العدد، لكنها من حيث النتيجة لم تحقق أي رقم يذكر، لأن الرئيس أولا، ثم القوى السياسية (في الحكم والمعارضة)، تعاملوا مع المبادرات بسلبية مطلقة، سببها الإحساس بأداء الواجب من قبل المبادرين، الذين توقف نضالهم عند نقطة كتابة وقراءة ونشر بنود مبادراتهم، دون تطبيق ولو فكرة واحدة من تلك البنود، ثم جاءت الأسباب الأخرى، كالإستهتار واللامبالاة والمماحكات وتصفية الحسابات والشعور بالخوف على المصالح الشخصية تباعا. وكالعادة لم تغب مصطلحات المؤامرة والتخوين ضد بعض المبادرات والمبادرين، كما جاء على لسان الدكتور عبدالكريم الإرياني يوم أن وصف المشروع المشترك للإصلاح الوطني المقدم قبل ثلاث سنوات بأنه “إنقلاب على الرئيس”.
فيما كانت المبادرات تواصل ظهورها بشكل شبه يومي، حتى أن المتابع والمهتم يعجز عن اللحاق بها، كانت الأزمة اليمنية تتصاعد وتتفاقم بصورة أسرع من المبادرات نفسها، لتشمل الحياة اليمنية بكل جوانبها، والتي أوكل حمل همومها وآلامها ومآسيها للشعب المطحون، بينما فرقاء السياسة يبادرون ويتحاورون وينامون، ثم يستيقظون ليبادروا ويتحاوروا من جديد. وهكذا تكرر المشهد أياما وسنين دون أن تحقق القوى السياسية شيئا ملموسا على أرض الواقع. والواضح أن تلك القوى لم تدرك وهي تبادر وتتحاور بدون نتيجة، أن تبعيتها المفرطة للرئيس، وإيمانها بجهل الشعب وإنعدام قدرته على الإنطلاق بدونها، وتغليب مصالحها ومطامعها الذاتية والضيقة، مع تغييب كامل لمصالح البلاد، سيدفع الجماهير لخيارات أخرى، أهمها خلق كيانات وإفراز قيادات جديدة، قادرة على إستيعاب مطالب الناس، والتصدي للحاكم والمعارضة في آن واحد، كما حدث في جنوب البلاد وشمالها، من صدامات وحروب ومواجهات، أدت إلى خروج الأزمة اليمنية من يد قواه السياسية في الداخل، باتجاه القوى الإقليمية التي باتت تستشعر بعمق، الخوف القادم من النهاية اليمنية المجهولة. والخروج يعني هنا فشل القوى اليمنية في حل مشاكل الوطن المعقدة، المؤثرة سلبا على دول الجوار، التي سارعت إلى تلقف الأزمة والتحكم فيها كما هو معروف وواضح للجميع.
حتى هذه اللحظة، يتواصل هبوط المبادرات على أرض الوطن من الداخل والخارج، كما تواصل الأزمة صعودها (رغم تدخل دول الإقليم) نحو خيارات مرعبة، لكن أحدا في السلطة والمعارضة، لم يبادر باتخاذ موقف وطني كبير، يتلائم وحجم الخطر، كخطوة أولى تضع البلاد في بداية طريق الأمان، والمقصود هنا بالموقف؛ “الخطوة العملية”، أمّا ما رأيناه ونراه، وسمعناه ونسمعه الآن، من اطروحات ودعوات وحوارات في السلطة والمعارضة، فتلك أمور (بشهادة الأزمة وخطورتها)، لا يمكن أن تتجاوز “المشاريع الورقية” التي كانت وبلا شك، السبب الرئيس في وصول البلاد الى هذه المرحلة المظلمة.
من بين كل المبادرات المطروحة منذ سنوات حتى هذه اللحظة، تبرز مبادرة الشيخ حميد الأحمر الشهيرة، التي قدمها قبل إنتخابات 2006، لتمثل حسب رأي المهتمين حلا جذريا لمشاكل اليمن، لأنها لامست الجرح مباشرة وكشفت بوضوح عن منبع الأزمات والمشاكل في وطننا، الموضوع في غرفة “العناية المركزة”، ونعتقد هنا أن القوى السياسية قابلتها بغباء كبير، كما أن الدول الإقليمية أخطأت يوم أن تجاهلتها (ربما لعدم التنسيق المسبق)، ولو أن الأطراف في الداخل والخارج تعاملت معها، بالعقلانية والمنطق والجدية السياسية، لكانت اليمن اليوم تعيش في وضع صحي خارج غرفة الطوارئ، وقسم العناية المركزة المملوك للرئيس وحزبه الحاكم.
كانت النقطة الأولى والهامة والمصيرية في تلك المبادرة، تتضمن عدم ترشح الرئيس أو أبنائه وإخوانه وأبنائهم وأقاربه وأنسابه (كلهم في السلطة حتى من لم يبلغوا الحلم) وكذلك من سبق له رئاسة اليمن بشطريه، وتولى رئاسة الوزراء وامتلك “حقيبة وزارية”، مضافا إليهم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر (المبادرة قبل وفاته رحمه الله) أو أبنائه. عدم ترشحهم للرئاسة وتولي اخرين السلطة لعشر سنوات كاملة، والعمل على منح الشعب القدرة في اختيار قيادات جديدة تقوده نحو حاضر ومستقبل أفضل، والواضح من خلال هذه النقطة بالذات، أن الشيخ حميد الأحمر أدرك بسبب قربه من مراكز القرار والصراع السياسي في البلاد، أن تلك المراكز قد عفى عليها الزمن، لأنها تحمل عقليات قديمة عجزت في مسايرة المتغيرات والتطورات البشرية في كل العلوم، وأنها السبب الأول والأخير ليس في تفريخ الأزمات وإشعالها فقط، بل وجر البلاد إلى الوراء بصورة عجيبة وغريبة، لذلك لم تغب كلمات الثورة والجمهورية والوحدة والإمام والإستعمار… الخ، من أفواه وخطب قادة القوى السياسية، وفي مقدمتها الرئيس طبعا، مع أن تلك الأحداث مر على بعضها خمسون عاما حدث خلالها ممارسات أقبح من ممارسات الإستعمار وفترة حكم الحزب الاشتراكي ودولة الإمام، التي يواصل قادة الحاكم والمعارضة إنتقادها لكنهم تفوقوا على الجميع بأسلوب أبشع في ممارساتهم، فالرئيس يقول أن الثورة قامت لتنهي التوريث والإمام، لكنه يورث بعد أن صنع للبلاد مليون إمام، ينتقد تولية الأقارب والأصهار بينما هو لم يترك فردا من أقاربه وأنسابه بدون منصب هام. يقول أن نظام الرهائن كان ظلما لكن نظامه يمارسه بشكل أوسع وأشمل، يسخر من أجرة العسكري كفرد في عهد الإمام، فيما نظامه يستلم أجرة طقم كامل مع ملحقاته في اللواء وغيره، يتهم الإمام بالفساد في الوقت الذي يحرق نظامه بفساده الأخضر واليابس. يشير لسيارة الإمام وكيف شق لها الطرق فيما مواكبه الهائلة بمختلف أنواع السيارات تدوس على الطرق وكل من يقف فيها، بينما المعارضة تمثل بحضورها القديم صورة معكوسة لنظامنا العتيق السائر إلى الوراء بعزم وإصرار (ونخيط وزنط). ولهذا ليس من الغرابة أن يحن الكثير من أبناء اليمن لعهدي الملكية والحزب الإشتراكي، لأنهم على أقل تقدير كانوا يمتلكون عزة وكرامة الإنسان اليمني، أما في عهد “الصالح” فقد إمتلأت جولات البلاد ودول الجوار بأطفال وكبار (يحمل بعضهم جوازات حمراء) تشهد أن نظامه أفرغ الوطن من العزة والكرامة.
لقد مثلت مبادرة الشيخ حميد الأحمر، المشكلة والحل في آن واحد، ولأن أحدا لم يهتم بما ورد فيها، فها نحن بكل أسف وحزن ومرارة نصل حد الحرب الأهلية، وإن لم نعمل على إحياء تلك المبادرة والإستعانة بها لمواجهة عقول الدمار الشامل، مع إضافة بعض النقاط الوطنية إليها، فإن قادتنا “القدماء” لن يستمروا في سحب الوطن إلى الخلف فحسب، بل سيجرونه إلى مرحلة الدويلات الصغيرة. ولذلك، يجب على تلك المسميات أن ترحل وتغادر مواقعها في السلطة والمعارضة، فقد سببت لوطننا وشعبنا ما لم يسببه الإستعمار والإمام، وآن الأوان للقيادات الشابة النظيفة أخلاقا وعلما وسلوكا، أن تقوم بواجبها الوطني، وتفرض رؤيتها على تلك “الأصنام البشرية” التي نصبناها ثلاثين عاما، وقدمنا لها الوطن قربانا لتقربنا إلى الخير والأمان، لكنها لم تكتف ويبدو أنها ستزهق روح الوطن بعد أن أزهقت روح وأحلام شعبنا، لتغادر بعدها بثرواتنا المنهوبة إلى الخارج.
العودة إلى مبادرة الشيخ حميد، والإنطلاق من نقطتها الأولى سيخلص الوطن من أمراضه المزمنة. ونرى أن الجميع هنا (خاصة الطبقة المثقفة)، مطالبين بالعودة إليها وشرحها للناس، عبر تلقينهم معنى التخلص من تلك الأصنام البشرية المسببة للأزمات والعلل. فيكفي الوطن والشعب ما لقياه على أيدي أولئك من ويلات، وحان الوقت لخلق وحمل إرادة وطنية صلبة وقوية لوضع القيادات المخلصة في مقدمة الصفوف، لتقود اليمن بأرضه وإنسانه نحو المستقبل الأفضل. ولأجل ذلك نرى أن تطعيم تلك المبادرة بالعديد من النقاط الأخرى والمستوحاة طبعا من واقعنا السياسي بمبادراته وحلوله أمر ضروري تحتمه صعوبة المرحلة وتفرضه الأزمة المعقدة. ونحن هنا إذ نقدم رؤيتنا المرتكزة على قاعدة انطلاق نؤمن بصوابيتها، فإنما نقوم بذلك حبا لوطننا وشعبنا ولا نقصد الإساءة لشخص ما، أو الرغبة في إقصاء إسم معين، ولكن الواقع يجبرنا كيمنيين أن نقف بصدق مع وطننا وأنفسنا. والصدق يتلخص هنا، كما نعتقد، بوجوب مغادرة من تنطبق عليهم النقطة الواردة في مبادرة الشيخ حميد، التي اجتهدنا باعتمادها نقطة مركزية لرؤية سننشرها الأسبوع القادم.
Leave a Reply