هكذا “انسحبت” اسرائيل من “جبهة خربة سلم” ..
مع نهاية هذا الاسبوع، تكون عملية تأليف الحكومة اللبنانية قد دخلت مرحلتها النهائية، بعدما تجاوز تحالف الموالاة والمعارضة خلافهما الاساسي حول عقدة “الثلث الضامن”.
دخان التأليف الحكومي الابيض ارتفع من قصر بعبدا على لسان كل من رئيس المجلس النيابي، وهو عرّاب الاتصالات الجارية لحلحلة العقد، والرئيس المكلف النائب سعد الحريري.
تجاوزت عملية التأليف، إذن، عقدة توزيع الحصص ورست المعادلة على صيغة ١٥ – ١٠ – ٥ ، اي تلك الصيغة التي تعطي للاكثرية النيابية ١٥ وزيراً وللاقلية ١٠ وزراء ولرئيس الجمهورية خمسة وزراء من بينهم وزيران “وديعتان” شيعي وسني لفريقي ٨ و ١٤ آذار وبما يوحي بأن مطلب المعارضة بالحصول على “الثلث الضامن” قد جرى تمويهه بالوزير الشيعي، الاستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور عدنان السيد حسين، بعدما نال موافقة الطرفين الشيعيين “حزب الله” وحركة امل، رغم اصرار رئيس الجمهورية على اعتباره من صلب حصته الوزارية التي لم يتراجع عنها، خصوصاً ان الوزير الشيعي العتيد هو عضو في الفريق الاستشاري لرئيس الجمهورية منذ توليه منصب الرئاسة بتوافق داخلي وعربيي ودولي.
لكن بصرف النظر عن “طبيعة” الوزير الشيعي “الحادي عشر” وفيما اذا كان “ملكياً (الوزير الملك) او “عادياً، فإن مجريات عملية التأليف الحكومي التي تكون قد استغرقت شهراً او يزيد واتسمت بقدر عالٍ من الكتمان والاقتصاد في التصريحات، دلت على ان الطرفين الرئيسين في معادلة الصراع على السلطة “حزب الله” و”تيار المستقبل” يتهيبان “امراً ما” يلوح في افق الازمة الاكبر في المنطقة. هذا التهيب رافقته عملية خلط اوراق داخلية وتموضعات جديدة لحلفاء من الطرفين، ادهشت بسرعتها وجرأتها معظم المراقبين. ابرز وجوه هذا الخلط الـ”لوك” السياسي الجديد تماماً الذي اخذ يظهر به ابرز اركان تحالف الرابع عشر من آذار الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. فالنائب جنبلاط، متوكئاً على حلف قديم ـ جديد مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، بات واعظاً سياسياً لكلا فريقي ١٤ و ٨ آذار ويصنف نفسه في “منزلة بين منزلتين” وفق منطق الفيلسوف الفارابي، واصفاً تحالف فريقه ١٤ آذار بـ”الهيولي”، وهو يدرك في قرارة نفسه ان هذه الصفة تنطبق الى حد كبير على تحالف ٨ آذار الذي اخذت تظهر عليه عوارض الشيخوخة السريعة، هذا اذا افترضنا انه لم يولد ميتاً في الاصل. فمن يستمع الى نواب “التيار الوطني الحر” ورئيسه الجنرال ميشال عون يدرك بأن الغزال الذي يرعى منذ فترة في الارض الفاصلة بين “رابية” الجنرال و”عين تينة” رئيس المجلس قد وسع من نطاق رعيه ليصل الى “حارة حريك” حزب الله، بعدما خف التوتر كثيراً على الخطوط السنية – الشيعية منذ الانتخابات النيابية الاخيرة التي ادت الى احتفاظ “تيار المستقبل” بزعامة الاكثرية النيابية وبالتالي الى تكليف زعيمه النائب سعد الحريري تأليف الحكومة الجديدة. والملفت في سياق التطورات التي اتبعت قرار التكليف هو موقف “حزب الله” الذي لم يتبن مطلب اي من حلفائه وظلت مواقف نوابه ومسـؤوليه “غائمة” مع تغليب نبرة ايجابية تجاه الرئيس المكلف والاستعاضة عن الحديث عن “الثلث الضامن” بحديث عمومي عن “الشراكة العقلية”.
بل ان الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله اطلق في احدث خطاب له موقفاً زاهداً في التمثيل الحكومي من اساسه.
– “جبهة خربة سلم” –
وإذا كانت عيون اللبنانيين متجهة صوب “ازمة التأليف” او ما شبه لهم بأنها ازمة، إلا أن عيون ابرز اركان المعارضة، “حزب الله” كانت ولا تزال متوجهة جنوباً، وفي الاسبوعين الاخيرين تحديداً، نحو قرية بالقرب من الحدود اللبنانية – الفلسطينية حظيت، على دويّ انفجار لمخزن اسلحة على ارضها، بسمعة عالمية فطارت شهرتها الى اروقة مجلس الامن والقصور الرئاسية في الغرب والشرق، واحتل اسمها صدر صفحات الصحف والمواقع الالكترونية العربية والعالمية.
وربما كان من غريب الصدف ان اسم القرية اللبنانية الجنوبية “خربة سلم”، حيث بدا لايام وساعات طويلة ان “خراب السلم” الاقليمي والدولي يلوح من تلال تلك القرية الوادعة التي خاض بعض سكانها مواجهة بالعصيّ والحجارة مع قوات “اليونيفيل” الدولية التي اندفعت الى داخل القرية لاستطلاع ما جرى فيها والوقوف على حقيقته، تحت ضغط المطالبة الاسرائيلية بالتحقيق في حادثة الانفجار، وللوصول الى اقناع مجلس الامن بتغيير “قواعد الاشتباك” التي تحكم عمل هذه القوات، على مقربة من تجديد انتدابها في شهر آب (اغسطس) القادم.
“حزب الله” الذي وقع تحت احراج انفجار مخزن الاسلحة في “خربة سلم” بادر الى تحريك جبهة مزارع شبعا، لكن “شعبياً” هذه المرة، فارسل تظاهرة من اهالي المنطقة المحاذية للمزارع لتزرع العلم اللبناني وعلمه عند نقطة حدودية تحفظ عنها لبنان عند اجراء عملية ترسيم الحدود بعد تحرير الجنوب اللبناني في العام ٢٠٠٠ ، فيما عرف بالخط ا لازرق، وكانت اسرائيل قد اقامت سائراً ترابياً في تلك النقطة ورفعت علمها فوقه رغم اشكالية الترسيم في تلك النقطة الحدودية وعدم اقرار الامم المتحدة بـ”اسرائيليتها” او لبنانيتها.
اراد “حزب الله” افهام الاسرائيليين ان خرق القرار ١٧٠١ الذي وضع حداً لحرب تموز العدوانية على لبنان في العام ٢٠٠٦، لا ينطبق على انفجار خربة سلم وحده، وان من شبابيك التزامه بالقرار من زجاج، عليه ان لا يرشق الآخرين بالحجارة.
وبالطبع، فإن الخروقات الاسرائيلية لهذا القرار، الذي انهى ”العمليات العدائية” لكنه لم يرتق الى مستوى وقف اطلاق نار رسمي .. هذه الخروقات، عبر الطلعات الجوية الاسرائيلية في الاجواء اللبنانية متواصلة و”روتينية”. لكن ما تخشاه اسرائيل او ما تروج له اعلامياً، هو خطر امتلاك “حزب الله” منظومة دفاع جوي للتصدي لتلك الانتهاكات الجوية، ومحاولة اسقاط طائرات اسرائيلية فوق الارض اللبنانية، وهو ما من شأنه، ليس فقط احراج اسرائيل، مثلما “احرج” حزب الله في “خربة سلم”، بل ادخال الرعب في قلوب المسؤولين السياسيين والعسكريين في تل ابيب من امكانية وقوع طيارين اسرائيليين في قبضة المقاومة، التي سيكون من الصعب جداً على الدول المتعاطفة مع اسرائيل ان تدين “حزب الله” على دفاعه عن اجواء بلده ووقف التعديات الاسرائيلية الجوية المتواصلة على سيادة فضائه.
ادركت اسرائيل ان البناء على انفجار “خربة سلم” للتشويش على مهمة القوات الدولية او تعديلها، واتهامها بالتهاون امام اصرار “حزب الله” على تعزيز قدراته وتواجده جنوب نهر الليطاني مسألة تحتمل حدوث توتير على الحدود قد يؤدي الى انفجار عسكري غير محسوب سياسياً والى تورط اسرائيلي خارج الخطط والحسابات الموضوعة التي تعمل اسرائيل على اكتمالها للانتقام لهيبة الردع المسفوحة لجيشها خلال عدوان تموز ٢٠٠٩.
هكذا انسحبت اسرائيل من الجبهة السياسية التي فتحتها في “خربة سلم”، بعدما رد “حزب الله” بفتح مماثل لجبهة المزارع، فبدا الانسحاب المتبادل من الجبهتين اداة من ادوات ضبط الصراع على وقع الجهود الاميركية والاوروبية لاحداث اختراق في مشاريع الحلول المطروحة للازمة ا لكبرى، وتهيب اسرائيل والقوى الاقليمية الفاعلة على حد سواء، من اية خطوة غير محسوبة بدقة، من شأنها ان تشكل شرارة خطيرة بالقرب من برميل البارود الذي يحكم الاميركيون والاوروبيون حراسته من رعونة وطيش حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل، التي تحاول بشتى الوسائل استدراج الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي الى سيناريو “آرماغا دوني” يمتد من طهران الى اسوار القدس التي تتابع حكومة اليمين اجراءات تهويدها، رغم التحذيرات الاميركية المتواصلة.
“ازمة خربة سلم” ربما تكون قد طويت مؤقتاً، وقادة اسرائيل اخفقوا في تغيير قواعد اللعبة في تلك المنطقة المرشحة باستمرار لاطلاق جنون الحروب الاسرائيلية من عقالها، لكن الحذر الشديد من النوايا العدوانية الاسرائيلية لا يقل اهمية عن “الاستراتيجية الدفاعية” بل هو احد عناصر بنائها المركزية.
والاهم ان لا يقتصر وعي الخطر الاسرائيلي على التفاهم الحكومي اياً تكن صيغته، بل ان يتحول الى تفاهم وطني يطال الشارع اللبناني الذي ابتُلي في السنوات الاخيرة بأمراض وطنية خطيرة، ليس اقلها “الانفلونزا المذهبية” التي هددت بتحويل لبنان الى ”ارض سواد” على الطريقة العراقية.
فليُصلِ اللبنانيون لاستمرار وحدتهم في وجه اخطار اسرائيلية داهمة لا تنتظر سوى ضبط الساعة الاميركية والدولية على توقيت تل ابيب!.
Leave a Reply