“سوف أخرج من 14 آذار”.. “لم أخرج من هذا التحالف لكنني خرجت من شعاراته”. .”نحن بحاجة إلى شعارات جديدة في 14 آذار”، “للجبل الدرزي وللحزب التقدمي الاشتراكي خصوصية معينة.. فليحترم حلفائي خصوصيتي”. “لا بد للدروز من العودة إلى العروبة وإلى اليسار.. هذا هو النهج التاريخي للطائفة وللحزب”. “لقد أخطأت في الذهاب إلى المحافظين الجدد، وأنا نادم، لكن ما حصل قد حصل”. “سوريا خرجت من لبنان وعهد الوصاية قد ولى، وكفانا بكاء على الأطلال”. “14 آذار حققت أبرز أهدافها.. تحالفي معهم كان للضرورة الموضوعية ولم يعد ممكنا أن يستمر”.
تلك عينة من المواقف التي أطلقها الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط وكانت كافية لإحداث زلزال سياسي في البلد، لاتزال هزاته الارتدادية تتوالى.
ليس ثمة حاجة لاسترجاع ما قاله وليد جنبلاط بحق سوريا وحلفائها اللبنانيين. تكفي الإشارة إلى أن مواقف جنبلاط تخطت بكثير في حدتها مواقف “ابن الشهيد” تجاه النظام السوري بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لقد قال جنبلاط في خصوم الأمس ما لم يقله مالك في الخمرة. بل انه احرج أكثر حلفائه تشددا فكانوا يخرجون من احراجهم بالقول: هذا هو وليد بك وهذا هو اسلوبه.
هل وليد جنبلاط خائف؟ هل خوفه بات المقرر شبه الأوحد في صياغة مواقفه الجديدة؟ هذان السؤالان ارتسما في الاسبوع الماضي على صفحات تحليل اكثر المراقبين دقة ورصدا لحركة وسلوك النائب اللبناني المثير للجدل، لكن الاجابات الشافية والقاطعة ظلت بعيدة عن المتناول.
لماذا اختار وليد جنبلاط هذا التوقيت لاعلان خروجه من 14 آذار؟ ولماذا خاض الانتخابات النيابية بنصف شعارات هذا التحالف على الأقل، وما هي الحكمة الجنبلاطية في تفجير قنبلة الانسحاب في عز ازمة التأليف الحكومي، وبعدما قطعت عملية التأليف ثلاثة أرباع الطريق أو أكثر واعتبرت بحكم المنتهية سياسيا على حد وصف رئيس المجلس النيابي؟ وهل فاجأ وليد جنبلاط خصومه مثلما فاجأ حلفاءه في تكويعته الحادة الجديدة التي “اخترع” لها مناسبة الجمعية العمومية لحزبه في فندق البوريفاج يوم الأحد الماضي؟
ثمة قطبة مخفية في الثوب السياسي الجديد الذي يعمل الزعيم الدرزي على حياكته. وهذه القطبة تتصل باشارات ما التقطها “الرادار الجنبلاطي” في الاسابيع القليلة الاخيرة، وهي اشارات غير مطمئنة بالتأكيد. غير أن الثابت أن جنبلاط يعيش حالة خوف على موقع الطائفة والحزب واحادية زعامته لهما. الرجل لايزال يعيش هاجس احداث 7 ايار 2008 وجعل الحديث عن ازالة رواسبها غرة احاديثه في الاشهر التي تلت تلك الحوادث. فمن الشريط التسجيلي المسرب في احدى الخلوات عن “الجنس العاطل” الى “انتفاضته” الاعلامية ضد تقرير مجلة دير شبيغل الالمانية والتي بزت مواقف “حزب الله” المعني في ذلك التقرير، بدا وليد جنبلاط كمن يحاول عبور حقل الغام في زمن قياسي للوصول الى بر امان لا يتعب من البحث عنه.
أدرك وليد جنبلاط، على الارجح، ان موقعه “الريادي” في تحالف 14 آذار بشعاراته القائمة يضعه في عين العاصفة التي يتوقع هبوبها من لبنان أو على لبنان. استخلص جنبلاط الكثير من العبر في علاقة حزبه “اليساري” بأميركا والغرب. هاله ان ينظر الى ادارة اوباما الجديدة وهي تمارس الانفتاح على النظام الذي دعا الى تدميره في عهد المحافظين الجدد. نظر الى فرنسا الساركوزية-الاشتراكية فوجدها تكيل المديح للرئيس السوري ونظامه لايفائه بوعود مقطوعة لها.
أحس جنبلاط انه لم يعد في الموقع “الصح” وان وجوده في فريق 14 اذار بات يشكل عبئا على لياقته السياسية وعائقا امام التموضعات التي تفرضها الظروف الاقليمية والدولية.
لم يكن اعلان جنبلاط خروجه من 14 اذار موقفا اعلاميا وحسب. الرجل عنى ما يقول وتوضيحاته اللاحقة من قصر بعبدا لم يكن من شأنها ان تعيد ثقة الحلفاء وعلى رأسهم الرئيس المكلف سعد الحريري بمواقفه.
الموقف الجنبلاطي المدوي الاخير ربما يكون مسك ختام مسلسل تقلباته. يدرك وليد جنبلاط ان خياراته الجديدة غير قابلة للتفسير او التبرير لدى حلفاء الامس. لكنه يدرك ايضا ان اللعبة الطائفية اللبنانية تبيح له الانقلاب على قناعات شخصية من اجل مصلحة طائفية.
عاد وليد جنبلاط زعيما نقيا لطائفته، متخليا عما ظنه دورا وطنيا على متن “ثورة الأرز”. لا مكان ولا مكانة للزعامات “الوطنية” في زمن التكتلات الطائفية، وفي زمن الخوف الطائفي.
يريد جنبلاط ان ينتقل مع طائفته (وحزبه) الى خط التماس الشيعي-السني لمحاولة القيام بعملية “فك اشتباك” يعتقد ان اندلاعه قد يطيح بجبله الدرزي وبحزبه وبالتالي بزعامته. لا يحتمل وضع الزعامة الجنبلاطية هزة أخرى من نوع هزة 7 أيار 2008.
لكن بالعودة إلى سؤال التوقيت، هل ادرك جنبلاط ان معضلة التأليف الحكومي سوف تطول؟ ام أنه يتهيب تشكيلة حكومية يشارك فيها الى جانب الاكثرية النيابية ويمارس من خلالها”حزب الله” لعبة الثلث المعطل؟ وهل ادرك جنبلاط ان ثمة فيتو اميركي – اسرائيلي-مصري على حكومة وحدة وطنية تتبنى وجهة نظر “حزب الله” في بيانها الوزاري فيما يخص المقاومة وحقها في استئناف عمليات تحرير ما تبقى من الارض اللبنانية؟
هل استخلص جنبلاط ان امكانية قيام الدولة وخروجها من انفاق الطوائف يستحيل في الظروف الحالية، وقبل ان ترتب كل طائفة امورها وتأمن الى مستقبل وجودها من خلال تركيبة تتجاوز اتفاق الطائف لتكريس حقائق جديدة؟ وهل اقتنع جنبلاط بأن العودة الى احضان رئاسة الجمهورية لانقاذ الجمهورية من الزوال هو السبيل الوحيد الى الخروج من المأزق الحالي، في استعادة لدور والده الشهيد كمال جنبلاط مع رئاسة اللواء فؤاد شهاب بعد الاحداث الطائفية في العام 1958. والرعاية الناصرية التي شجعت على استمرار العمل بالصيغة اللبنانية في ظل غياب اية بدائل لتعايش الطوائف التسع عشرة؟
لكن من يكون راعي اللجوء الجنبلاطي هذه المرة الى الرئاسة المارونية المعتدلة، بعيدا عن “صقور” 14 آذار من المسحيين؟ وهل يكون التفاهم السعودي-السوري بديلا وتعويضا عن مصر الناصرية في الستينات؟
اسئلة كثيرة ربما لن يكون من الحكمة الجزم في الاجابة عنها، مثلما ليس من الحكمة القطع بان وليد جنبلاط ودع جمهوره اللبناني والعربي في اخر حلقة من المسلسل المثير “اين يقف وليد جنبلاط؟”.
الشيء الوحيد الذي يمكن الجزم به أن وليد جنبلاط خائف. ووليد جنبلاط يقرأ كثيرا، وربما كانت اخر مطالعاته قراءة تقارير اميركية عن استعدادت اسرائيلية حثيثة لشن حرب بديلة على لبنان، تستهدف محو الاثار السيئة لحرب تموز الفاشلة واعادة تنقية الذاكرة العسكرية الاسرائيلية من العار الذي لحق بها جراء اخفاقها في تحقيق اهدافها المعلنة من تلك الحرب.
أما ما يحكى عن “اعتكاف” الرئيس المكلف سعد الحريري في جنوب فرنسا فقد لا تكون اسبابه “جنبلاطية” صافية بالضرورة، رغم الشرخ الذي اصاب العلاقة بينهما في الاسابيع الاخيرة.
لننتبه الى زيارة العنصري ليبرمان الى قرية الغجر على مثلث الحدود اللبنانية-الفلسطينية-السورية والحملة الاعلامية الاسرائيلية المواكبة عن رفض سكانها لتقسيمها الى جزءين، لبناني شمالي، واسرائيلي جنوبي.
لقد دخلت اسرائيل على خط التأليف الحكومي وصياغة البيان الوزاري، وتخطت المسألة “عودة” جنبلاط الى 14 آذار.
أعلن جنبلاط خياره الوسطي وطلب “اللجوء السياسي” الى قصر بعبدا، آملا من اقطاب آخرين في 8 آذار اللحاق به، لكن سيناريو “المزاوجة” بين الفريقين الآذاريين الذي يسعى جنبلاط وفق تقدير رئيس المجلس النيابي نبيه بري الى تحقيقه هو اقرب إلى “واقعية سياسية” لا يعترف بها قاموس الطوائف “الخائفة” حتى اشعار اخر!.
Leave a Reply