افلح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في “تجديد شباب”حركة فتح في مؤتمرها الأخير في بيت لحم. لم يعد عباس بحاجة إلى “الحرس القديم” من شيوخ الحركة ومن احتفظ منهم بمنصبه في اللجنة المركزية (محمد غنيم “أبو ماهر” وسليم الزعنون) يدخل في باب الإبقاء على صلة الحركة بتاريخ نضالي وتنظيمي قد لا يجسده بالكامل معظم أبناء الجيلين الثاني والثالث الذين قفزوا إلى مقاعد اللجنة وأزاحوا عجائزها بانتخابات ديمقراطية. أثبتت هذه الحركة التي كانت أول من أضاء شعلة الكفاح المسلح أنها لاتزال الابنة الشرعية لحيوية الشعب الفلسطيني وحركته التي لا يمكن لأي قيادة فلسطينية أن تتجاهلها، مهما طال الركود والفساد.
صحيح أن مؤتمر فتح تأخر حوالي عشرين سنة دخلت خلالها القضية الفلسطينية منعطفات جديدة وخطيرة بعدما اختارت السلطة التي حملها اتفاق أوسلو إلى الأراضي الفلسطينية، طريق التفاوض كوسيلة شبه وحيدة لتحقيق الأهداف الفلسطينية، لكن الصحيح أيضا أن رمز هذه السلطة وزعيم الحركة التي كانت في أساس قيامها لمس خطورة المنعطف الذي دخلته منذ فقدها السيطرة على قطاع غزة منتصف العام 2007 لصالح حركة “حماس”.
يدرك محمود عباس أن سيطرة “حماس” على غزة والانقسام العمودي الذي أصاب التمثيل الشرعي الفلسطيني كانت له أسبابه الفتحاوية الداخلية. فقد هرمت فتح ونخر جسمها الفساد إلى حد بات يستحيل عليها أن تحتفظ بأحادية تمثيل الشعب الفلسطيني أو الانفراد بالسلطة إلى أمد مفتوح دون تحقيق الحد الأدنى من طموحات الفلسطينيين بالدولة والسيادة والاستقلال.
ويمكن الزعم أن حركة “حماس” ما كان لها أن تحقق ما حققته من سيطرة سريعة وحاسمة على القطاع الذي يضم زهاء مليون ونصف المليون فلسطيني لولا سوء إدارة السلطة وفسادها اللذان عجلا في انهيارها في غزة وبدأت تلوح في الأفق ارهاصات إمكانية فقدانها السلطة في الضفة الغربية.
المؤتمر الأخير الذي عقدته فتح في بيت لحم وما حمله من تغيير في جسم الحركة المترهل يفترض أن تصيب عدواه حركة “حماس” التي يجب عليها أيضا ألا تكتفي بتنصيب نفسها وصيا وحيدا على قضية الصراع مع إسرائيل وإعلان الانتظار لاختبار “وطنية” فتح بعد المؤتمر الذي منعت بعض كوادر فتح في القطاع من المشاركة فيه.
وإذا كان صحيحا أن إزاحة “الحرس القديم” لحزب السلطة الفلسطينية هو خطوة “ثورية” وإنجاز بارز، بعد الانجاز الأول المتمثل بانعقاد المؤتمر بعد 20 عاما. إلا أن استمرار الانقسام وتمديد الصراع بين سلطتي الضفة والقطاع كفيل بأن يحول ما أنجزته “فتح” في مؤتمر بيت لحم إلى مجرد فولكلور سياسي بنقل مراكز النفوذ من كهول الثورة إلى شبانها.
فالتحدي الذي يواجهه أهل السلطتين المتنازعتين في الضفة وغزة هو ابتكار وسائل وبرامج سياسية مشتركة والالتقاء حولها قبل أن ينتهي الإسرائيلي من تصفية ما تبقى من قضيتهم التي لم تعد “عمليا” القضية المركزية للعرب، بعد سقوط العراق وتشظيه، وتمزق السودان وما ينتظر اليمن من مخاطر الحروب الأهلية والقبلية، وارتهان لبنان إلى لعبة أمم تعيد تكرار نفسها بعد عشرين عاما على انتهاء حربه الأهلية.
لقد حطم صراع الأخوة – الأعداء بين “حماس” و”فتح” هالة القضية الفلسطينية في نظر العرب والعالم ويجب على الحركتين اللتين تزعمان أمومة القضية أن لا يوديا بها، بسلوكهما المتعنت. لقد استدرج العرب “أبوات”الثورة في مرحلة شبابهم الى مستنقعات خلافاتهم وحساباتهم القطرية الضيقة الآفاق، ويخشى أن حركة “حماس”تعيد هذه التجربة، متوهمة أن الشرعية الشعبية التي حملتها الى مشاركة فتح في السلطة تعفيها من النظر في جوانب الخلل الخطير الذي اصاب منهج العمل الفلسطيني في العقدين الماضيين. فالحرب العدوانية الاسرائيلية الأخيرة على غزة تركت “حماس” تحكم أنقاض الدمار ومخيمات اللاجئين الجدد على أرضهم. وعوضا عن المبادرة الى أخذ العبر ومحاولة استبيان مواضع الخلل في منهاج العمل السياسي، انصرفت “حماس” إلى “معالجة” بعض القشور في المجتمع الفلسطيني المحاصر في القطاع المنكوب، واهتمت، على سبيل المثال، بسبل تطبيق الشريعة الاسلامية على مليون ونصف مليون فلسطيني يقفون عند حافة المجاعة!
بالطبع ليس المقصود تحميل حركة “حماس” كل أوزار الوضع الفلسطيني المتردي، وليس من العدل الإيحاء بهذا الأمر. ففساد حركة “فتح” لم يكن يوما مجرد تخمين أو تكهن، ومن يعتقد، في صفوف “فتح” أن “حماس” ستعود صاغرة إلى حظيرة السلطة الفلسطينية فهو واهم. فلكل من الحركتين الفلسطينيتين برنامجه و”عقيدته” النضالية، لكن عليهما الإجابة عن تساؤل مُلحّ لا يحتمل التأخير في الإجابة عنه:
ماذا قدمت الحركتان في العقدين الماضيين في مواجهة المشروع الصهيوني القائم على تهويد ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، غير نموذجين عن فلسطين أحدهما “ليبرالي” لم يستطع “إقناع” اسرائيل “بسلميته” والآخر “إسلامي” يكاد يستنفد كل شعاراته الأيديولوجية دون التقدم بالقضية الفلسطينية بوصة واحدة في مضمار تحقيق الأهداف والأماني المعقودة عليها.
لقد تعب الفلسطينيون من صراع أدعياء تمثيلهم الحقيقي وهم لا يلمسون على ارض الواقع، وداخل سجونهم الصغيرة والكبيرة سوى المزيد من المعاناة من عنت الاحتلال وغطرسته ووحشيته. وما شهده حي الشيخ جّراح في القدس المحتلة من طرد لأهاليه من منازلهم على أيدي قطعان المستوطنين ليس سوى تأكيد على عبثية استمرار الانقسام الفلسطيني بين “ليبيراليين” و”إسلاميين”، فيما تمعن دولة الاحتلال في تهويد آخر المعاقل الفلسطينية في المدينة المقدسة، فضلاً عن محو الذاكرة الفلسطينية-العربية حتى من إشارات الطرق والقرى والبلدات داخل ما يسمى “بالخط الأخضر”.
لقد “سايرت” حركة فتح خصمها الفلسطيني “حماس” بتبني كل أشكال المقاومة كحق مشروع لاستعادة الأرض الفلسطينية، ويبقى على شركاء النضال في غزة أن يلاقوا هذه الخطوة في منتصف الطريق ومتابعة جهود ترميم الوحدة الفلسطينية عبر الحوار، ضنّا بمعاناة أهل غزة المحاصرين بانقاض منازلهم المدمرة ولقمة عيشهم التي يمنعها الاحتلال الاسرائيلي عنهم في ابشع ممارسة لدولة تدعي “الديمقراطية” وتتشدق بحقوق الإنسان في إعلامها.
لقد استحق “عجائز الثورة” إقصاءهم في بيت لحم، بعدما احتكروا القضية الفلسطينية وحولوها إلى أداة نفوذ وأهواء ومصالح عائلية وشخصية، وأسهموا مع سلطة “حماس” في غزة في تهشيم حلم الدولة. فهل تستخلص “حماس” العبر وتلبي نداء الوحدة الفلسطينية العاجلة، بعيدا عن الحسابات والاعتبارات غير الفلسطينية؟!
لم يعد من الجائز التلطي وراء شعار “اختبار النوايا” واللجوء إلى إخضاع “الخصم” لفحوص وطنية، فيما تستعجل حكومة العنصريين في اسرائيل تنفيذ آخر مشاريع التهويد في أحياء القدس.
من الغبن لشعب لم يبخل على قضيته بأغلى التضحيات والتشرد في منافي الأرض ومخيمات البؤس في الداخل وفي المحيط العربي، أن لا تبادر الحركتان الفلسطينيتان الى وضع حد لمهزلة الجدل البيزنطي حول أفضل سبل إدارة الصراع مع عدو لا يستمر ويقوى إلا بضعف أصحاب القضية ممن وصلت بهم الخلافات إلى حد القبول الواقعي بـ “قسمة الصبي” التي يزينها لهم الأعداء، وهم في غيهم وضلالهم ممعنون.
Leave a Reply