تشكيلها بات مرتبطاً بتطورات خارجية ينتظرها الرئيس المكلف
بيروت–
رئاسة الجمهورية تصنع في الخارج، وهذا ما هو معروف منذ الاستقلال، إذ كانت قرارات عربية وإقليمية ودولية، تؤثر في تسمية الشخص الذي سيتبوأ هذا المنصب، هذا ما حصل منذ أول انتخابات رئاسية في عام 1943، فدعم الإنكليز بشارة الخوري الذي فاز في الرئاسة الأولى، والفرنسيون إميل اده، الذي خسر وكانت ردة فعل سلطة الانتداب الفرنسي أن اعتقلت الخوري وأعضاء في الحكومة ومجلس النواب.
وما زالت صناعة رئيس الجمهورية تقوم بها أطراف خارجية، وآخرها انتخاب الرئيس ميشال سليمان، الذي جاء في نص اتفاق الدوحة الذي هو توافق عربي – إقليمي – دولي على حل الأزمة التي عصفت في لبنان، منذ نهاية 2006 وحتى أيار 2008، تخللها توتر أمني كاد أن يطيح بالسلم الأهلي.
لقد شكل اتفاق الدوحة حلاً مؤقتاً للأزمة ووضع آلية لذلك، بدأت بانتخاب رئيس جمهورية توافقي، وتشكيل حكومة عبر صيغة 16 للموالاة و11 للمعارضة و3 للرئيس ميشال سليمان، ووضع قانون انتخاب يعود إلى ذلك الذي صدر في العام 1960 مع بعض التعديلات في دائرة بيروت وإجراء انتخابات نيابية.
أما وقد حصلت الانتخابات وأفرزت أكثرية وأقلية، دون وجود لكتلة وسطية، كانت ستكون من حصة رئيس الجمهورية، سوى عدد قليل من النواب، وأبرزهم ميشال المر يعلن أنه من كتلة الرئيس ميشال سليمان فإن تشكيل الحكومة يتعثر، ولا توجد حلول داخلية لها، إذ أن الوضع عاد إلى المربع الذي كان قبل اتفاق الدوحة، عندما كان أطراف الصراع، يتداولون الصيغ، ويصر كل فريق في الموالاة والمعارضة على حصته، في ظل أوضاع سياسية متشنجة وتطورات أمنية مقلقة، مما حدا بجامعة الدول العربية أن تتحرك عبر أمينها العام عمرو موسى، إضافة إلى موفدين أوروبيين وأميركيين وعرب إلى أن وقعت واقعة 7 أيار في العام 2008، وفرضت المعارضة سيطرتها العسكرية على بيروت وبعض المناطق، مما أدى إلى اختراق لحاجز الأزمة وولد اتفاق الدوحة، الذي يقول المسؤولون القطريون الذين رعوه، أنه انتهى مع الانتخابات، لكن الأزمة لم تنته وعاد الوضع إلى التأزم من جديد، مع تشكيل الحكومة الجديدة، إذ مضى أكثر من شهرين، ولم يحرك رئيسها المكلف سعد الحريري ساكناً، ويتقدم بمبادرة ويطرح صيغة معينة، سوى ما هو منتظر منه أن يفرض حكومة أمر واقع، وهنا تقع الطامة الكبرى، وتدخل البلاد نفق أزمة، لا تعرف كيف تتخلص منها.
فولادة الحكومة بحاجة إلى حل خارجي، هذا ما بات معروفاً، وإن صمت قيادات فاعلة، بدءاً من الرئيس المكلف سعد الحريري الذي وصف نفسه بـ”أبي الهول” إلى صوم الرئيس نبيه بري ومعه النائب وليد جنبلاط، وانكفاء سمير جعجع وترداد نواب وشخصيات المواقف نفسها من الوضع الحكومي، بإطلاق الاتهامات يميناً ويساراً على من يقف وراء العرقلة، دون تبيان الحقيقة، إذ يحاول البعض أن يختصر أزمة تأليف الحكومة بتوزير جبران باسيل، وإصرار العماد ميشال عون عليه وإبقاء وزارة الاتصالات في عهدته.
فالأزمة ليست بهذه البساطة، وإن كان فيها جانب صحيح، لما يعتري الأزمة الحكومية من عقبات، لكن المسألة لا يمكن حصرها بالداخل، بل بما هو مفروض من الخارج، وبات تشكيل الحكومة يصنع في دوائر القرار الأميركي، الإسرائيلي، الفرنسي، السعودي، السوري، المصري، الإيراني، ولا يمكن أن تصدر مراسيم تأليف الحكومة، دون أن تمر في هذه المعابر، ولكل جهة خارجية أسبابها، ولقد كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو صريحاً وواضحاً، عندما أعلن أنه يرفض أن تشكل حكومة في لبنان، ويكون “حزب الله” ممثلاً فيها، ومثله فعل مسؤولون أميركيون وفي مقدمتهم مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط والسفير الأميركي السابق في لبنان “جيفري فيلتمان” الذي حذر من مشاركة “حزب الله” في الحكومة، وهو ما يرغبه أيضا النظام المصري الذي لن يكون راضياً على حكومة يشارك فيها “حزب الله”، في حين أن السعودية تسعى لأن تأخذ ضمانات من سوريا، بتسهيل مهمة الحريري، والضغط على حلفائها لتخفيف شروطهم ومطالبهم، فتجاوبت دمشق من خلال الصيغة السياسية لشكل الحكومة، وهي 15 للموالاة و10 للمعارضة و 5لرئيس الجمهورية، بحيث كرست من خلال حوارها مع السعودية، الحل السياسي، وهو المهم ورفضت أن تدخل في التفاصيل، التي تتعلق بتوزيع الحقائب وتسمية الوزراء، فهذه المسألة هي من صنع اللبنانيين في اتفاقهم مع بعضهم، طالما أن الحكومة هي حكومة وحدة وطنية وائتلاف وطني، وقد تجمدت الاتصالات السورية-السعودية عند رعاية اتفاق لبناني حول صيغة الحكومة سياسياً، أي تعويم اتفاق الدوحة عبر صيغة جديدة، لم ترق للأميركيين ولا المصريين، وحتى للإسرائيليين، الذين يريدون حكومة لا تمثيل للمعارضة فيها، أو على الأقل أن لا يكون لها تأثير في داخلها.
ووقف تشكيل الحكومة عند تنفيذ صيغة الاتفاق حولها، بتوزيع الحقائب وتحديد الأسماء، وقد تعثرت هنا، وعند تلبية مطالب “كتلة الإصلاح والتغيير” التي رفض الحريري التجاوب معها، ووقف عند ممانعته بعدم إعادة توزير باسيل تحت تبريرات أنه فشل في الانتخابات، وعدم إعطاء وزارة الاتصالات إلى “التيار الوطني الحر” واستعادتها من قبل “تيار المستقبل”، ورفض البحث في إن تسند وزارة الداخلية إلى أي عضو في “التيار الوطني الحر” وهي ستبقى من حصة رئيس الجمهورية، الذي عليه أن يسمي الوزير سواء كان زياد بارود أو غيره، لأن هذه الوزارة ستشرف على الانتخابات البلدية والاختيارية في الربيع القادم، وهي توازي بأهميتها إذ لم تكن أكثر الانتخابات النيابية، لأن الطرف الذي يفوز بأكبر عدد من البلديات والمجالس الاختيارية، يكون يمثل شريحة شعبية واسعة تعطيه وزناً وحجماً في التركيبة السياسية والمعادلة الحكومية.
فحلحلة عقد تشكيل الحكومة، يمكن أن تكون لبنانية، إذا ما تجاوب الرئيس المكلف مع مطالب عون والمعارضة، وتؤلف الحكومة بأسرع ما يمكن، لمواجهة التحديات الداخلية من مصاعب اقتصادية واجتماعية وإنمائية، إلى أخطار خارجية أولها التهديدات الإسرائيلية للبنان بشن عدوان جديد.
لكن هناك من ربط الوضع الحكومي بتطورات خارجية منتظرة، وأجل ولادة الحكومة، إلى ما بعد استحقاقات عدة، منها ما سيصدر عن المحكمة الدولية الخاصة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والمعلومات المتداولة عن استدعاء شخصيات تنتمي إلى أحزاب المعارضة وعلى رأسها “حزب الله” إضافة إلى ما سينتهي إليه وضع البرنامج النووي الإيراني، سلباً أو إيجابا.
كما أن هناك من يتوقع تطورات ما في موضوع الصراع العربي-الإسرائيلي، وما سيقدمه الرئيس الأميركي باراك اوباما من مبادرة جديدة، ويترافق ذلك مع التطورات الأمنية المتسارعة في العراق، والتفجيرات التي شهدها، والتي أعادت إلى الواجهة الصراع الدموي، وإعادة إذكاء القتال السني-الشيعي، والذي سيكون له انعكاسات على لبنان، إذ أن الأجواء المذهبية مسيطرة على الوضع الداخلي، وقد أعاد تسعيرها تصريح لعضو قيادة “تيار المستقبل” النائب السباق مصطفى علوش عبر القول، بان اكتشاف مخزن أسلحة في طرابلس، يعود لـ”حزب الله” مما يؤشر إلى أن الأوضاع تتجه نحو التصعيد السياسي المغلف بكلام مذهبي وطائفي، باستعادة مواقف عن صلاحيات رئيس الحكومة السني واعتبار موقف العماد عون من عبارة النائب المكلف استفزازاً للسنة، حيث انبرى عدد من القيادات السنية السياسية والروحية، والبعض منها في المعارضة كالرئيس عمر كرامي، إلى استخدام عبارة “استفزاز السنة”، وهو يذكر بموقف سابق له، في أثناء أحداث طرابلس، عندما قال: إذا كانت القضية قضية سنة، فأنا مع السنة، وقد لا يكون الرئيس كرامي قاصداً في كلامه التحريض المذهبي أو الطائفي، ولكنه يتحدث عن التركيبة الطائفية للنظام السياسي اللبناني، التي تفرض الحديث المذهبي والطائفي، الذي لا يتم الإقلاع عنه، إلا بالذهاب إلى إلغاء الطائفية.
فمع هذه التطورات، تبدو الحكومة الجديدة مؤجلة الولادة الطبيعية إلى عملية جراحية قيصرية، وهي ستدخل إلى العناية الفائقة، كي لا يموت المولود وإذا عاش كي لا يقع خلاف على اسمه.
ولقد أثبتت أحداث الأربع سنوات الأخيرة، أن لبنان لم يصبح بلداً سيداً حراً، وأن اللبنانيين لا يملكون قرارهم، وأن مثل هذه الشعارات، سقطت على أرض الممارسة، منذ أن انسحبت القوات السورية من لبنان، والتي كان وجودها هو لمساعدة اللبنانيين، أولا على وقف الحروب فيما بينهم، ومن ثم لدعمهم في قيام مؤسساتهم الدستورية بعد إجراء إصلاح على النظام السياسي، وهذا ما حصل بعد اتفاق الطائف، لكن الطبقة السياسية الحاكمة لم تأخذ بيدها القرار الوطني، بل رهن بعضهم نفسه للخارج، من أجل مصالح سياسية فئوية، ففرضوا دائماً التدخل السوري، وهو ما لم يمكنهم من صنع رئيس جمهوريتهم، ولا حصول انتخابات من دون قانون يحمي مصالح هذه الطبقة، بحيث صدرت قوانين منذ العام 1992، تخدم فئة من السياسيين، وقيام تحالفات انتخابية عبر لوائح موحدة تؤمن الفوز لمجموعة من المنتفعين، وهو الأمر نفسه في تشكيل الحكومات التي كانت معلبة وأكثرها كان يخدم الرئيس رفيق الحريري.
وعندما خرجت القوات السورية انكشف اللبنانيون ومنهم من التحق بـ”ثورة الأرز”، فإذا بهم أمام حقائق، أنهم ما زالوا قاصرين عن ممارسة السيادة والاستقلال وامتلاك القرار الحر، فسقطت هذه المقولات، وأسقطها أصحابها، الذين كانوا يعملون في مشروع أميركي، ظنوا أنه يحمل الديمقراطية للشرق الأوسط الكبير، فإذا بهم يكتشفون أنهم أدوات فيه، وعندما انتهى المشروع سقطوا معه، وهم الآن أمام حقيقة قاسية ومرة، وهي أن حكومتهم لن تشكل لبنانياً، وتنتظر تطورات خارجية، وأن صوم قادة سياسيين عن الكلام، وأخذ الرئيس المكلف إجازات عائلية، يدل على عمق الأزمة الحكومية، التي هي أزمة النظام السياسي الذي رسم اتفاق الطائف خارطة طريق لإصلاحه، لكن من تولوا الأمر لم يقدموا على ذلك، وهذا ما أبقى لبنان أسير الخطاب المذهبي والطائفي، وتوقع انفجار سلمه الأهلي في أية لحظة، وهذا ما يتطلب إما وضع الاتفاق موضع التطبيق، أو البحث عن اتفاق آخر، خارج التسويات التي هي هدنات مؤقتة للحل.
Leave a Reply