“وشروه بثمنٍ بخس دراهم معدودة وكانوا فيه الزاهدين”.
ولأن الله تعالى غالب على أمره، فقد مكّن ليوسف في الأرض، وأتاه حكماً وعلماً وجمالاً جعل المرأة التي ربته تذوب فيه عشقا وولهاً، وهو لا يستجيب لإغرائها فلم تلق منه إلا الصدود والرفض.
“وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا”.
وكان جزاؤه السجن لأنه استعصم عنها وعن صويحباتها ولم يفعل ما آمرنه به، وآثر أن يدخل السجن لينجو من كيدهن.
وقد مكث مدة في السجن حتى أمر الملك بإخلاء سبيله وحضوره بين يديه، لكن يوسف عليه السلام، ابى الخروج من السجن إلا بريئا من التهم الباطلة التي بسببها دخل السجن.
أعد الملك مأدبة لمحاكمة يوسف. حضرت امرأة العزيز والنساء المأدبة. سأل الملك ما قصة يوسف؟ وما الذي تعرفنه عنه؟ هل صحيح إنه..؟ قاطعت إحدى النساء الملك قائلة “حاشا لله” وقالت امرأة أخرى: لا نعرف أنه ارتكب سيئة واحدة، وقالت امرأة ثالثة: كان في طهر الملائكة!
كانت الأنظار كلها تتجه نحو امرأة العزيز، كانت تبدو شاحبة الوجه، نحيلة، هدها الشوق والحزن على يوسف وهو في حبسه. زادت حنينا إلى رؤيته، وتغير نوع حبها له بعد محنته بسببها، وبشجاعة اعترفت كعاشقة ليوسف بأنها هي من راودته عن نفسه فرفض. وأكدت أنها تقول ما تقول لا خوفا من الملك ولا من النساء، وانما ليعلم يوسف أنها لم تخنه بالغيب. وهو الذي يعنيها وحده دون سائر الخلق. عند ذلك، ثبتت براءة يوسف أمام الجميع وقص الله نبأ هذا التحقيق والمحاكمة في آياته المباركة:
“قال ما خطبكن إذ روادتن يوسف عن نفسه قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق. أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم إني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين”.
يصوّر لنا القرآن الكريم، اعتراف امرأة العزيز بكلمات توحي ما وراءها من انفعالات ومشاعر عميقة “أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين”. إنها شهادة كاملة بإثمها وخطيئتها هي وبراءته وعفته وصدقه هو.
شهادة لا يدفع إليها خوف أو خشية أو أي اعتبار آخر، ومن خلال قراءتنا لسورة يوسف، نشعر بحافز أعمق من هذا كله، دفعها لذلك الاعتراف العلني. ربما يكون حرصها على كسب احترام الرجل الذي أهان كبرياءها وأنوثتها ولم يعبأ بفتنتها الجسدية، ومحاولة يائسة لتصحيح صورتها في ذهنه. كانت لا تريده أن يستمر في تعاليه واحتقاره لها كإنسانة خاطئة. تريد أن تصحح فكرته عنها “ذلك ليعلم إني لم أخنه بالغيب”. ولعلها راحت تبكي بحرقة وهي تقول: “وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربّي، إن ربّي غفورٌ رحيم”.
إن تأمّل هذه الآيات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحولت الى التوحيد -دين يوسف- وإن سجنه كان نقلة هائلة في حياتها، دفعها للإيمان بربه واعتناق دينه، ملة آبائه ابراهيم واسحاق ويعقوب “ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء”.
يهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة امرأة العزيز تماما فلا نعرف ماذا كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمناً إيمانها بدين يوسف وبعدما أحبته على البعد وما زالت هي المرأة العاشقة التي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه أو خاطرة ارتياح ولو بالغيب، ودون أمل في لقاء.
بعد تحقيق الملك في موضوع يوسف “قال الملك أتوني به استخلصه لنفسي”.
لم يبلغ النبي يوسف عليه الصلاة والسلام تلك المرتبة من البراءة والشرف دفعت الملك أن يستخلصه ويجعله أمينا وحفيظا على خزائن الأرض، إلا بعد معاناة وإذلال في السجن مع العتاة والمجرمين، وقبل ذلك ظلم إخوته له وإلقائه في بئر الحياة المجهول.
إنها نعمة الحياة، لا تنال بالتمني أبداً إنما تؤخذ غلابا. أتمنى للجميع صوما مقبولا وأجرا عظيما على كل عمل صالح.
Leave a Reply