يطرح الانقسام الذي شهدته الأحزاب الشيعية العراقية المشكلة لما يطلق عليه “الائتلاف العراقي الموحد” ودخول معظمها، باستثناء حزب الدعوة (حزب المالكي) ضمن ائتلاف جديد أطلق عليه اسم “الائتلاف الوطني العراقي” أسئلة حول خلفية التوجهات المستقبلية للطائفة الأكبر التي تسعى إلى تثبيت حكمها بالوسائل الديمقراطية، بعد انهيار النظام البعثي وانفتاح الآفاق لحكم الأكثرية العددية الشيعية للمرة الأولى منذ تأسيس دولة العراق في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي.
أولى هذه الأسئلة وأبرزها يتصل بمدى تأثير ونفوذ “حزب الدعوة” الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي في عراق ما بعد الاحتلال، وشكل ومدى العلاقة التي ستربط حكم الأكثرية الشيعية بأميركا والغرب عموما، بعد تنفيذ الإدارة الأميركية الجديدة التزامها الانسحاب من العراق في مطلع العام 2011.
فرئيس الحكومة العراقية الذي وجه ضربات متعددة للجسم الميلشياوي الشيعي المتمثل أساسا بالتيار الصدري مما أرغمه على الانكفاء المؤقت عن التأثير في مجريات العملية السياسية ودفع بزعيمه رجل الدين الشاب مقتدى الصدر إلى البحث عن تفاهمات اقليمية امتدت بين أنقرة وطهران ودمشق، بات مقيدا، إلى درجة كبيرة، بالاستجابة إلى الحد الأدنى من شروط فرض الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي إذا أراد الاستمرار في الحكم على رأس الأكثرية الشيعية بعد انكفاء الاحتلال عن العراق.
يدرك المالكي في قرارة نفسه أن ثمة نزوعا أميركيا وغربيا إلى إعادة الاعتبار للنفوذ السني في العراق، وأن مرحلة الرئيس السابق جورج بوش التي اتسمت بالوقوف إلى جانب الأكثرية الشيعية والعمل على تعزيز سيطرتها على القرار السياسي والأمني في أرض الرافدين باتت من الماضي، وأن اللعبة الأممية-الإقليمية الجديدة تخضع مصالح أطرافها لموازين جديدة لم تعد تأخذ بالاعتبار حصرية الحكم الأكثري الشيعي الذي تطافرت ظروف وعوامل دولية وإقليمية على إخراجه إلى الواجهة، بعد سقوط النظام السابق.
يصعب الجزم بأن هنالك اختلافا جوهريا بين التوجهات السياسية لحزب المالكي وتوجهات الأحزاب الشيعية الأخرى وأبرزها التيار الصدري و”حزب الفضيلة الإسلامي” و”المجلس الإسلامي الأعلى العراقي” وذراعه العسكرية منظمة “بدر” وسائر التشكيلات الشيعية التي سايرت الاحتلال الأميركي لتثبيت نفوذها على الساحة العراقية لكنها بقيت في فلك النفوذ الإيراني وتعمل لصالحه، رغم محاولات “المجلس الإسلامي الأعلى العراقي” التوفيق بين علاقة جيدة مع الولايات المتحدة وعلاقته شبه العضوية بنظام الثورة الإسلامية في إيران.
لكن توجه الأحزاب الشيعية إلى تشكيل “الائتلاف الوطني العراقي” في توقيته وظروفه، يبعث برسالة واضحة إلى نوري المالكي مفادها أن استمرار اللعب على الحبال الأميركية-الإيرانية لم يعد ممكنا وأن العراق قد دخل في مرحلة من إعادة التشكل تقتضي وضوحاً في التحالفات وموقفاً من الطموحات الإيرانية إلى نفوذ رئيس في العراق تقربه تلك الأحزاب وتسعى إلى تكريسه، فيما لا يزال المالكي “يناور” على الخط الفاصل بين رفض أميركي وغربي لنفوذ إيراني واسع في العراق ومنطقة الخليج عموما ومراعاة المصالح الإيرانية بالمواقف الكلامية التي لم تعد تجدي نفعا بنظر حلفاء طهران من الشيعة العراقيين.
بإزاء هذا المشهد الشيعي المنقسم على نفسه، أخذ طرفاه يسعيان إلى نسج تحالفات وتفاهمات مع المكوّنات الطائفية والعرقية الأخرى تحت عنوان “الوحدة الوطنية والقومية ونبذ الطائفية” ومن المرجح أن تشهد الفترة الفاصلة عن الانتخابات البرلمانية في كانون ثاني (يناير) من العام المقبل استقطابات وتجاذبات بين التحالف الشيعي الجديد والتحالف الذي ينتظر أن يعلنه المالكي تحت اسم “دولة القانون والمؤسسات” لخطب ود الجماعات والتنظيمات السنية والكردية وبعض الأقليات الطائفية والعرقية الأخرى. هذه التكتلات الجديدة التي تطفو على سطح الصراع السياسي في العراق من شأنها الاسهام بالمزيد من أعمال العنف في ظل الاختلاف في التوجهات السياسية والأمنية، لكنها قد تمهد الطريق لتحالفات أقل طائفية وأكثر وطنية من أي وقت مضى منذ وقوع العراق بين فكي كماشة الاحتلال والارهاب قبل أكثر من ست سنوات.
وربما أراد التحالف الشيعي الجديد إعادة الاعتبار إلى “تيار الاصلاح الوطني الحر” بزعامة رئيس الحكومة السابق ابراهيم الجعفري ووضعه في مواجهة المالكي بعدما أسهمت بعض المصالح الآنية لأطراف شيعية في ابعاده عن رئاسة الحكومة، وحيث لعب التيار الصدري بعد ذلك دورا في تغليب اختيار المالكي لرئاسة الحكومة على حساب شخصية من “المجلس الاسلامي الأعلى العراقي” وثيق الصلة بطهران، والذي جاهر زعيمه الراحل حديثا عبدالعزيز الحكيم في المطالبة بنظام الأقاليم ومحاولة اقناع الإدارة الأميركية بجدواه للعراق الجديد، قبل أن يعود ويتعثر في عهد حكم المالكي، الذي لم يخف معارضته لهذه الصيغة، بل عمل على إبعادها عن جدول الأعمال السياسي لحكومته، ولجأ الى عقد تفاهمات مع مجالس الصحوات (السنية) ومنحها دوراً وتمويلاً لمواجهة التنظيمات الأصولية من “قاعدة وأخواتها” في مناطق السنة، وإن ظل “متقشفا” وحذرا في اشراكها بأعداد كبيرة في أجهزة الجيش والشرطة.
ثمة من يتعقد بأن سياسة المالكي في السنوات القليلة التي مضت على توليه رئاسة الحكومة نجحت في ارساء بعض الأسس لعراق مستقر، تكون واجهة حكمه أكثرية شيعية “مقبولة” من “السنة” وباقي المكونات العراقية، وبأن الشارع الشيعي العراقي بات أكثر ميلا الى ساسة واقعيين ويتمتعون بقدر من المرونة من أمثال المالكي، ودليل ذلك اكتساحه وحلفاؤه انتخابات مجالس المحافظات مطلع العام الجاري، وفي أكثر المناطق الشيعية حساسية، مثل النجف وكربلاء.
ويعوّل المالكي، على الأرجح، على البناء على تلك النجاحات المحدودة، للانطلاق بـ”تحالف دولة القانون والمؤسسات” في الانتخابات البرلمانية المقبلة وتحقيق فوز جديد يبقيه على رأس الحكومة المقبلة التي سيكون من أولى وأبرز مهماتها ترتيب أوضاع ما بعد الانسحاب الأميركي وإثبات جدارة العراقيين في حكم أنفسهم بأنفسهم.
لكن طريق المالكي مليئة بالحفر والمطبات، وقد لا تكون الحفر العميقة التي أحدثتها الإنفجارات الهائلة لمئات أطنان المتفجرات على أبواب المؤسسات الرسمية الحكومية في “المنطقة الخضراء” سوى “أول الغيث” للتحديات التي سيواجهها المالكي وحلفاؤه القدامى، خصومه الجدد على حد سواء، في محاولة الإستمرار بالقبض على مفاتيح الحكم في بلد محاصر بكل أنواع الأطماع بثرواته والطموح الى التحكم بتوجهاته من الأقربين، عرباً وعجماً، والأبعدين، شرقاً وغرباً.
فهل يكون الانقسام السياسي بين شيعة هذا البلد مقدمة لتقسيمه وتوزيعه بين دويلات ضعيفة في الجنوب والوسط والشمال وإغراقه في صراعات دموية جديدة لا تنتهي. أم حافزاً لنسج تحالفات وطنية ما فوق طائفية تعيد الى بلاد الرافدين أمناً واستقراراً سيظلان مفقودين في غيابها؟
يخطىء العراقيون، بكل أطيافهم، إن ظنوا أن غلبة طائفة أو مذهب وإنكسار آخر يعيد اليهم بلدهم المخطوف رهينة لدى مصالح الكبار والصغار من المنخرطين في لعبة الأمم.
Leave a Reply