من حق المرء أن يتساءل ويسأل نفسه أولا: ما هو السبيل للخروج من هذا المستنقع العفن الذي دفعني إليه السياسيون اللبنانيون، مستنقع الطائفية والمذهبية؟ كيف لي أن أخرج من جدالات بيزنطية يومية عن أصل وفصل تلك الطائفة أو ذاك المذهب؟ كيف لي أن أتحرر من تلك القيود التي تكبلني وتجعلني اسيرا لمواقف الزعماء ورهنا لإشاراتهم؟ ما هو السبيل كي أشعر بأنني مواطن مجرد عن انتمائي الطائفي والمذهبي، مواطن سيد نفسه، لا وصي عليه إلا القانون؟
كيف لي أن أعيش بكرامة من غير أن أقف على أبواب الزعماء والسلاطين كي يرموا لي الفتات مما سرقوه ونهبوه؟ كيف لي أن لا أصفق للزعيم مهما قال وأن لا أميل حيث يميل؟ كيف لي أن أرجم طبقة الزعماء وأكيل لها اللعنات وأعلن بلدي بلدا خال من الزعامات الطائفية والمذهبية؟
من المؤسف والمحزن القول بأن اللبناني عاجز عن تغيير واقعه، أو يمكن القول بأنه يمقت التغيير. فعلاقة الزعيم بجهموره أصبحت علاقة تبادلية طردية، فاذا ما تشنج الزعيم التهب الجمهور واستعرت فيه نار الغضب وشد ألوية القتال وتأهب للمعركة، فيجد عندها الزعيم بأن تشنجه لا يلبي حاجة محبيه ومريديه، فلا بأس بجرعة إضافية من الغضب تعيده الى الصدارة على رأس الحشود الغفيرة الغاضبة!
والمضحك المبكي أن تلك الجماهير تحفظ قوانين اللعبة غيبا، فهي تجد لنفسها التبريرات وتعلل هدوءها بجو التفاهمات في المنطقة الذي انعكس على الداخل، وحتم عليها التزام المنازل. وما يثير السخرية وسط كل هذا الملل في لبنان، أن هناك من لا زال يعتقد بالعرق السامي والتفوق النوعي وما إلى ذلك من الكلام الفارغ عن الكمية والنوعية وعن مجد لبنان المُهدى إلى أحدهم!
أي مجد للبنان قد أُعطِيَ، أهو مجد الحرب المذهبية الأهلية عام 1860، أم هو مجد التمييز العنصري بين الجبل والساحل في عهد المتصرفية، أم هو مجد العمالة مع الفرنسي، أم مجد المارونية السياسية البائدة التي تحكمت بالبلاد والعباد وتغطرست على الفقراء من أبناء المناطق النائية والطوائف المغايرة. أي مجد هذا، أهو المجد الذي صنعه سمير جعجع الابن الشرعي لسيد بكركي، عندما أبلى بلاء حسناً في الحرب الأهلية ودرّج القتل على الاسم والهوية. أي مجد هذا الذي يتحدثون عنه ويقيمون الدنيا لأجله، لأن هناك من يعتقد بأن مجد لبنان أعطي للشعب اللبناني وللمقاومين الأبطال.
يعني أن تكون لبنانيا فأنت حكما تابع لمن يملك مجد وطنك، ومجد لبنان صنعه من يملكه، فنصبح نحن اللبنانيين أدوات لا قيمة لها بين المجد ومن يملكه. وللمجد تعريفه الخاص في لبنان، فهو يحمل مسبقا تفسيراته الثقافية والحضارية والدينية الخاصة. فمقاومة أدهم خنجر وصادق حمزة للفرنسيين عند أصحاب مجد لبنان تعتبر خيانة وقرصنة وقطع طريق، ومقاومة المحتل الاسرائيلي تعتبر أعمال مخلة بالأمن. والعمالة للاسرائيلي من متطلبات صناعة المجد كما كان يفعل عقل هاشم في الشريط الحدودي المحتل الذي حاز على جنازة رعوية قام بترؤسها المطران مارون صادر موفدا من البطريرك صفير.
إذا كان هذا هو مجد لبنان فمبروك على من أعطي له هذا المجد. على أنه لا مجد حقيقي لبلد تعتريه الطائفية ويغرق في نزاعات وحروب أهلية منذ نشأته وحتى اللحظة، سوى المقاومة بوجه اسرائيل، مجد لبنان الباقي الذي لا يهدى سوى لصانعيه..
Leave a Reply