بتأمل الدراما، كفن بصري، واستقصاء مناخاتها وفضاءاتها، ستبدو العلاقة بين الممثل والشخصية التي يلعبها علاقة متداخلة، شائكة ومعقدة. ويتصل هذا التعقيد بطبيعة العملية الفنية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب خصوصيتها وتمايزها عن العمليات الإبداعية الأخرى..
بكلمات أخرى، تختلف الدراما عن بقية الفنون بالمنطق الخاص الذي يحكمها، فالفنون جميعها تقوم بتشفير الواقع عبر النصوص المُنتجة، سواء في الكتابة، أو التشكيل، أو الموسيقا، أما الدراما فهي تقوم بعمل معاكس: إنها حاملة الشيفرة ومفككها في وقت واحد، وبالتالي هذا الحضور الخطير للممثل، الحضور الملغوم والمفخخ بسبب مزاولته التفكيك والتركيب في الوقت ذاته.
وإذن.. هذه العلاقة بين الممثل والشخصية الدرامية، وهي علاقة غائمة، ومحفزة، ومخيفة، وحساسة، وملتبسة، إلى الحد الذي يمنعنا من معرفة من يتحكم بمن: الممثل أم الشخصية؟!..
ومرة أخرى.. هذا الالتباس، فالشخصية الدرامية الافتراضية تصبح واقعية من خلال الممثل نفسه، وتدفع في الوقت ذاته شخصية الممثل الحقيقة إلى الخلف، إلى ما وراء ستارة الواقع، وكلما نجح الممثل في إقصاء نفسه ازداد تحكمه بالشخصية الدرامية. وما من شك في أن الممثل المبدع هو الذي يستطيع أن يدير، بمهارة، تلك اللعبة: لعبة الظهور والاختفاء، الحضور والغياب..
بهذا المعنى.. يمكن أن نفهم كيف يستطيع الممثل أن يلعب أكثر من شخصية درامية، والمفارقة.. أنه كلما استطاع الممثل أن يمحّي وأن يتوارى عن الأنظار، لصالح الدور الذي يلعبه، كلما كسب نقاطاً إضافية لصالحه كفنان، وازداد إعجاب الناس به، وانتظارهم له..
“لا أحد أكبر من الدور الذي يلعبه”، قال الفنان السوري بسام كوسا ذات مرة، وهذا القول يمثل فهماً جوهرياً لفن التمثيل، ويبدو أن بسام أمين لهذه المقولة، ويتمثلها في أعماله، وأكثر من ذلك.. يبدو أنها سر نجاحه. في مستوى آخر.. تبدو مقولة بسام بعيدة عن كثير من الفنانين السوريين، الذين يصرون في هذا الضجيج، وهذا التزاحم على الدراما السورية، على الحضور، وحجز أماكنهم في الشاشة، دون العناية اللائقة، أو الإخلاص لعملهم، ومن دون أن يتخلوا عن تبجحاتهم أو تطاوسهم..
وإذا كنا نسمع، في كثير من الأحيان في سياق ممجوج ومتهافت، عن الجهود التي يقوم بها الممثلون لصياغة الشخصيات، فإننا قلما نسمع عن الآثار التي تتركها الشخصيات في الممثلين، بل أن الكثيرين منهم يخرجون من أعمال ضخمة بدون خدوش (!!)، وعلى التوازي أيضاً، سيشفى المشاهدون من آثار تلك الأعمال بعد أيام قليلة. من المسؤول: الممثل أم الشخصية؟
ما من شك.. أن هناك شخصيات أكبر وأخطر من جميع الممثلين الذين أدوها. هاملت.. مثلاً. ثم إن هناك شخصيات جارحة، عملاقة، نادرة، وساحرة، والأهم أنها مؤثرة إلى أبعد مدى. لقد لجأ أنتوني كوين إلى جلسات العلاج النفسي كي يتخلص من بقايا عمر المختار. كما يبدو أن الممثل بين كينغزلي لم يتخلَ عن غاندي، حتى عندما تنطفىء الكاميرا، لذلك كان الهنود في فترات الاستراحة يقتربون منه، ويحيونه بانحناءة، كما لو أنه غاندي نفسه..
بعض الممثلين أوفياء للشخصيات. لقد عمل روبرت دنيرو على زيادة وزنه، بمقدار 26 كغ، حين أدى دور الملاكم جاك لاموتا في فيلم الثور الهائج، كما عمل الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو على زيادة وزنه بمقدار 12كغ ليقوم بدور طباخ. ممثل آخر ألزم نفسه كرسياً مدولباً لشهورعديدة ليقوم بدور معاق، والنجم أحمد زكي لم يستطع أن يتخلى عن أنور السادات في الفترات التي يتوقف فيها التصوير، فكان يتعامل مع الجميع كما لو أنه ما زال أمام الكاميرا..
صحيح أن جميع الأمثلة السابقة قادمة من السينما، ولكن المقارنة تصح، مع إدراكنا للفروق بين التلفزيون والسينما، والمقارنة تصح.. لأن فناني الدراما التلفزيونية لا يتوقفون عن استعراض الجهود التي بذلوها في رسم الشخصيات التي لعبوها، لدرجة أن بعضهم يثير الضحك، والبعض الآخر يثير الرثاء..
Leave a Reply