بعد الاحتفال الضخم بمناسبة أربعينية النظام الليبي، أصيب ملك ملوك أفريقيا بالأرق وصار لا ينام من وقتها قبل طلوع الشمس. وذات صباح بعد سهرة معقدة طويلة نهض وقال لمن حوله: يا الله أنا تعبت، أنا بدي أمشي يا رفاق. فقال أحدهم بفرح، صحيح حَ تمشي يا سيادة العقيد؟
فقال القذافي: نعم أنا ماشي فوراً.
عندها قال أحد مساعديه المرهقين التعبانين التلفانين وهو بين اليقظة والنوم: هل نخبر الجماهير بذلك؟
فاستغرب العقيد وسال: ولماذا تخبرون الجماهير؟
فأجاب المساعد المنهك: ولو يا سيادة العقيد، الجماهير من أربعين سنة مستنيّه هالخبر!
ليس غريبا أو عجيبا أن هناك تفاهما دوليا، يقضي بأن يظل الرؤوساء في العالم الثالث رؤوساء مدى الحياة، طالما هم ملتزمون بالنص المرسوم لهم. والتقيد بالنص لا يعني الالتزام الحرفي بكل كلمة أو فاصلة، ففي المسرح الحديث والسياسة العبثية، يسمح للممثل المهرج بهامش صغير من الحرية للرد على الجماهير والتواصل مع الجمهور عند اللزوم.
هناك الكثير من الرؤوساء الذين سولت لهم أنفسهم الخروج عن النص. ومنهم من خرج عليه قليلا، فأعيد تأهيلهم وتحفيظهم أدوارهم بطريقة أو بأخرى. غير أن هناك حالات يفقد الممثل فيها الذاكرة، أو يتقمص الدور بشكل كاريكتاتوري ومفضوح ومبالغ فيه، كما حدث للشاه الإيراني، ونورييغا وماركوس وصدام حسين، وغيرهم الكثير، في هذه الحالة لا بد من طرد الممثل، تماما كما حدث مع العقيد أبو شهاب في مسلسل “باب الحارة”.
الغريب أن هناك حالات مستعصية كحالة العقيد أبو إسلام القذافي، حيث مازال يؤدي دوره البهلواني في فضاء مفتوح تتصارع فيه شتى الأفكار والرؤى والمعلومات، ولو لم يتجه القذافي في مطلع شبابه إلى العسكرية، ونحا منحى فنيا في حياته بدلا من الجندية، لأصبح ممثلا بارعا ولامعا، وربما من قلة الخيارات أمامه اضطر للاتجاه نحو العسكرية التي كانت مأزقا له. فالحياة العسكرية انضباط، وهو في داخله بعيد جداً عن الانضباط. نفسه لا تطيق الانضباط وضد القيد وضد القانون وضد اللوائح والنصوص والتقاليد والأعراف، وخارجه كعسكري يوجب عليه التقيد والضبط. مأساة، فهو متمرد وثائر في ثياب جندي.
تلك النفس المنفعلة والمتوثبة لم تستطع البقاء في الجيش، لذلك كان طبيعيا أن يبحث عن خلاص نفسه من هذا القيد، لا خلاص ليبيا. وكان حظه يفلق الصخر بعكس حظ ليبيا. ومعمر القذافي لا يختلف عن أي مهرج، أو ممثل قدير. من هنا نجد التفاوت العجيب في تصرفاته وتصريحاته وخطبه بما يشبه التلاطم إلى حد الدهشة. الخروج عن النص أو إخراجه عنه كانت لها تأثيرات جذرية، ليس أقلها التحكم في ميزانيات دول الغرب وإنتاجية مصانعه الضخمة ومستوى معيشة ذلك الغرب الذي مؤخرا وبعد أربعين سنة من جنون ملك ملوك أفريقيا حتى العبط منحوه فيزا للدخول إلى أميركا التي برأته من تتهمة العبط والجنون وبات مقبولا ومرحبا به فيها. ولا شك سوف نرى فصلا كوميديا هزليا عابثا، كما كل مرة يحضر فيها القذافي لاجتماع أو مؤتمر قمة عربية أو إفريقية.
إذا كان الضمير الغربي تسكته ملايين القذافي التي يهدرها بدون حساب ومن أرصدة جماهيريته الشعبية والخالية من الديمقراطية، فيزيده -أي القذافي- اختيالا كالطاووس فيكبر ذيله ويصغر عقله، لكن نحن اللبنانيين وخصوصا العامليّين يجب ألا ندعه يختال بجنون وعظمة وهو المسؤول عن تغييب إمامنا وقائدنا السيد موسى الصدر ورفيقيه. من الواجب في هذا الشهر الفضيل أن نشارك بقوة في المظاهرة التي دعا إليها المركز الأميركي اللبناني في الثالث والعشرين من شهر أيلول، حيث سيلقي القذافي خطابا في الأمم المتحدة.
Leave a Reply