تحقق حلمي ورأيت فلسطين مرأى العين، ولم ارد ان اغادرها واتركها للصوص. الان فقط ادركت لماذا كان والدي يبكيان عندما يتحدثان عنها، لانها الفردوس المفقود، تستحق الدموع والدم ايضاً.
اهلها طيبون، شجعان، كرماء، لا تنقصهم الشهامة ولا المروءة، يحبون الارض، يعشقونها، ولا يتصورون حياتهم بعيدا عنها، لهم ابناء في المنافي، لا الابناء قادرون على الرجوع ولا امهاتهم يجرأن على الرحيل. معظم الشباب عاشوا تجارب المعتقل لحجر رموه او كلمه حره كتبوها. فهناك السجن مفخرة للرجال، واما الذين لم يعتقلوا قط يخجلون ويقدمون لك الاف الاعذار عن الشرف الذي لا يدعونه.
في فلسطين، الناس تحب الحياه، رغم الحواجز والجدار والخناق؛ منزرعون في الارض لا يشكون الا لله، ولا يناجون الا الله. على الجدران في بيوتهم صور الابناء، الشهداء، والسجناء والمبعدين، أمهات صابرات تمتلىء عيونهن بالدمع وهن يحدثنك عن شوقهن وحنينهن لاطفال صاروا رجالا منذ سنين. وفي كل بيت صورة للاقصى او قبة الصخرة كما في بيوت الفلسطينين في المنافي.
غضبت لأن الغرباء على الجسر يعاملونني كغريبة او سائحة حتى ادخل بلدي، ولكن لا بأس، فهذا لا يمنعني من اصراري على اللقاء بالارض التي حلمت بمعانقتها منذ سنين. كان والديّ يحدثاني عن جمالها وكنت اظنهما يبالغان، ولكني اكتشفت انهما لم يعطياها حقها من الوصف. فهي اجمل بكثير من كل القصص والروايات والحكايا وحتى الاساطير.
في فلسطين للتراب رائحه اخرى كما التلال والهضاب والجبال والاودية. الفواكه والخضار لها مذاق خاص، كان الناس يقولون ذلك ولم اصدق، ولكنها الحقيقه لا اجد لها تفسيرا الا ربما لانها ارض مباركة، فهي أكناف بيت المقدس. آه يا بيت المقدس، ومآذنك الحزينة، واسواقك القديمة التي تذكر كل السياح بأن الاساطير اليهودية خرافات. عبق التاريخ لا يكذب. وكما شعر شاعرنا تميم البرغوثي بأن القدس مليئة بالغرباء، ولكنه يستدرك ليقول “ما في القدس إلا انت”، فليلغوا كل الاسماء العربية، وليسموها اورشليم، وليمنعوا الشباب من دخولها للصلاة، فليفعلوا ما يشاؤون، فستفضحهم الحجارة والتراب والمساجد والكنائس والزعتر والميرمية والنعنع والقطن والكتان وبوابات المدينة وسجادها حتى هواء المدينة وسماؤها.
الطريق الساحلي والمدن المترامية على اطرافه قطعه من الجنة، الاشجار هناك اكثر خضره، والبحر اكثر زرقه والسما اكثر صفاء والهواء اكثر نقاء.
آه يا حيفا، وجبل الكرمل، ووداي النسناس، هناك رأيت غسان كنفاني الذي رحل من عقود في “عائد الى حيفا”. رأيت المدرسة التي كان والدي يدرس فيها كطفل وشاب، ورأيت مدرسة امي وطفت حولها مرات ومرات، ورأيت بيتنا ولم اجرؤ على ان ادق الجرس ليفتح لي الغرباء، اخبرت سائق السيارة -الفلسطيني- عن قصتي وبكيت وبكى لأن القصة قصته.
في يافا واللد والرملة طرق ترابية وبيوت مهدمة او مهجورة، البيوت هناك تبكي حنينا للغائبين وتنتظر العائدين، وكأني بها تناديهم: لقد طال بي الشوق ولوعني الفراق متى تعودون فيعود لي نبض الحياة.
كل من قابلت في الضفة او في فلسطين الـ48 لم يفقد الامل، رغم الوضع الراهن البائس والمحبط الا ان الجميع، نعم الجميع لا يأملون فقط، بل مؤمنون انهم عائدون، قد يطول بهم الزمن، ولكنهم عائدون كيف، لا يعرفون، ولكنهم مؤمنون.
الناس هناك عٌزّل ولكنهم شجعان، والغرباء بأسلحتهم وأصابعهم جاهزة على الزناد، ولكن الخوف واضح في عيونهم لا يستطيعون إخفاءه. والفلسطينيون في عيونهم الامل والغرباء رغم القوة والجبروت يملأهم اليأس، يعرفون انهم لصوص، ويدركون ان يوما ما قادم وسيحاسب اللصوص على جرائمهم وستسود العدالة. هم حتى لا يعيشون لحظة السعادة الآنية، فقلوبهم ممتلئة بهاجس الرعب، الرعب في الباصات، وعلى الشواطىء وعلى الحواجز ومراكز التفتيش المنتشرة كالنمل في كل زاويه من ارجاء الوطن.
الناس في فلسطين -كما هم في المنافي- يعشقون العلم ، يقتطعون من لقمة العيش ليوفروا اقساط الجامعة والمعهد والدراسات العليا. سياسة التجويع لم تفلح في تغييب الوعي او انتزاع التنازلات. قد يتنازل الساسة واصحاب الكراسي والمرابين والسماسرة ولكن سواد الشعب صامدون، اقوياء صلبون كما قلعة الجزار في عكا التي صدت نابليون وبحر عكا الذي ابتلع الغزاة.
الناس في فلسطين يقاومون، وان خفت صوت الرصاص، فالمقاومة مستمرة بالأغنية، والشعر والمسرحية والتشبث بالارض، لا مكان هناك للتخاذل ولا للتفريط.
اكثر من ستين عاماً. بنى اللصوص هناك أوكاراً وحصوناً وسجوناً وجداراً، ولكن اصحاب الارض يقاومون. لقد حولوا الجدار الى متحف وأصبح مزاراً للسياح ليقرأوا الكتابات والرسومات التي تخبرهم الرواية التاريخية الحقيقيه ، لا المزورة التي يعرضها اللصوص.
في فلسطين ترى البؤر الاستيطانية تلتهم الاراضي، وتشوه المكان، وتحس بأنها الى زوال، ويظنون انها حصونهم المنيعة.
… فلسطين أرض البراعة والابداع، هناك في الشوارع والازقه تقابل عشرات الواعدين، وتحس ان ناجي العلي ومحمود درويش، وغسان كنفاني، واميل حبيبي، وإدوراد سعيد يتناسخون في كل بلدة وقرية ومدينة. والغرباء لا يخافون من الرصاص فقط بل من الكاريكاتير والكلمة والقصيدة والاغنية والمسرحية وعجزت اجهزتهم العسكرية والاستخبارية عن مصادرة الحرف ونبض الحياة، فالغرباء عاجزون.
الناس هنال تحت الاحتلال، والأسر، والتحقيق، ولكنهم احرار، والسجان هو السجين في الجهة الاخرى من القضبان. الإرادة والعزم يهطلان على الفلسطينين من الغمام وتنبت من الارض مع المحاصيل.
غادرت فلسطين بأسى وحزن، ولكني لم أيأس فالكرمل فينا وعلى اهدابنا عشب الجليل، وكما قال درويش لفدوى طوقان، “نحن يا اختاه من عشرين عاماً-الآن ستين- نحن لا نكتب اشعاراً”، ولكنا نقاتل..
Leave a Reply