.
في وطن يسيطر عليه نظام لا يجيد من أمور الحياة سوى تحطيم الإنسان اليمني، من خلال اغتيال كل معاني حياته، ودفن معايير عزته وكرامته، وتحويله إلى مسخرة بين إخوانه من العرب أولا، عبر تقزيمه ببسط عوامل التجهيل والتخلف وتوزيع جرع الفقر والمرض، ومحاولة إجتثاث أصالته القيمية والأخلاقية، عن طريق إعلامي حكومي رخيص، تفنن بصحبة روح ونفس الشيطان في تزوير التاريخ والحقائق واختلاق وتلفيق القصص الكاذبة المسيئة لكل يمني على وجه الأرض.
في وطن عنوانه ذلك النظام البائس، نستحضر اليوم بأسى وحسرة وحزن، ذكرى إستشهاد الرئيس اليمني العظيم إبراهيم الحمدي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، المقتول غدرا وخيانة على يد ثلة من العملاء المأجورين الذين قاموا بتنفيذ جريمة قتله، إرضاء لأسيادهم في مملكة آل سعود، لتشكل تلك الفعلة القبيحة الشنيعة بداية الطريق لدفع اليمن نحو مستنقع الصراعات والحروب، ورميه في أودية “الفوضى الخلاقة” بعد أن كان في عهد الرئيس الراحل رحمه الله، قد وضع أقدامه في طريق الدولة المدنية الحديثة.
من نظرات آبائنا الأفاضل وإخواننا الكبار الذين عاصروا فترة الرئيس الشهيد، نكتشف حجم الكارثة، ومن قصصهم التي نصغي إليها باهتمام ندرك حنينهم الملتهب لأيام رئيسهم المحبوب الذي كان فردا مثلهم عاش معهم في مستوى واحد أكلا وسكنا وملبسا، وتنقل ومشى في أوساطهم بتواضع المؤمنين الصادقين، ليلامس حقيقة أوضاعهم ويتعرف عن قرب على احتياجاتهم، ومن أجل أن يشعرهم ويحسسهم أنه رئيس مهمته الأولى أداء أمانة منصبه الثقيلة، كقائد يلبي طموحات شعبه وليس “صنما بشريا” يقدسه الناس بالطواف حول قصوره، والإنتظار أمام أبوابه، والإرتصاص في الشوارع لاستقبال مواكب سيره الهائلة، المنتزع ثمنها من لقمة عيش الشعب كما هو الحال اليوم في وطننا المنكوب.
لم نعش فترته، رحمه الله، فنحن جيل جاء في عهد نظام التدمير الشامل، لنقف باكين على أطلال الرئيس الشهيد، مستمعين لرجل المرور الذي قال لنا أنه كان يؤدي عمله في إشارة سير بوسط العاصمة صنعاء، فإذا بسيارة تتجاوز قانون السير فيوقفها ليمنح سائقها مخالفة، فيقول له السائق أنا الرئيس إبراهيم الحمدي، فيقول له رجل المرور حتى لو كنت الرئيس فيجب عليك الإلتزام بالنظام والقانون، ليعلم بعدها أن الرئيس كان يقوم بمهمة المراقبة التي اعتاد عليها بزياراته المفاجئة لمعرفة أداء الحكومة بمختلف مسمياتها الكبيرة والصغيرة لإصلاح أي خلل مهما وكيفما وأينما كان.
حصل رجل المرور على ترقية مستحقة لأنه أدى عمله بروح القانون الذي كان مدماكا أسس به الرئيس الراحل مشروع بناء الوطن في نفس كل مواطن يمني، لذلك استشعر كل فرد في البلاد مسؤوليته في أن يكون جزءا في مسيرة البناء والإعمار والإنسان.
إلتقى رحمه الله في أحد زياراته لدولة خليجية بأبناء وطنه المهاجرين وجلس معهم يحدثهم ويحدثونه عن الوطن والغربة، وكانت عيناه قد وقعتا على أحد الشباب ولحظة وداعه لأبناء شعبه بمصافحتهم واحدا واحدا، إستوقف ذلك الشاب وطلب منه البقاء ليحدثه بأمر هام,وعندما لم يبق سوى القليل قال له أنه مستاء من طريقة لبسه وقصة شعره التي لا تتناسب مع عادات وأخلاق أهل اليمن وقال له برفق الرئيس الحنون على شعبه أنت يمني من شعب عظيم له إرثه وقيمه فكن سفيرا نفتخر به وارفع رؤسنا في بلاد الآخرين.
يقسم أحد الآباء المشهود لهم بالصدق والأمانة أن ذلك الشاب خرج مباشرة نحو أقرب مكان لقص شعره، وكان مثالا بعدها للمهاجر الناجح في كل شيء، كسائر أبناء اليمن في بلاد الإغتراب الذين كانوا في عهد الرئيس الحمدي يصتحبون عزتهم وكرامتهم أينما رحلوا وحلوا، لأن رئيسهم حفظ وحمى ذلك لهم بينما هم اليوم صاروا بتوقيع علي عبدالله صالح ورغبة النظام القائم عبيدا في السعودية تحت بند قانون “الكفيل” ومشردين بلاحقوق في دول الخليج الأخرى.
يستحضر اليمنيون اليوم حالهم المخجل في مملكة آل سعود، وكيف ساهم نظام علي عبدالله صالح في منح آل سعود الضوء الأخضر لإستعباد وإذلال اليمنيين رغم تنازل أو بيع النظام للأراضي اليمنية، ويتذكرون كيف أن الرئيس إبراهيم الحمدي، طار إلى السعودية لحظة سماعه قرارا ملكيا يحرم تمليك الأجانب المحلات والعقارات التجارية، ليقول لملكها يومها، هذا قرار يلغي إتفاقية الطائف بسبب نكثكم لبنودها وعليه سنسترجع أراضينا وسأطلب من أبناء شعبي العودة لبلادهم فيعتذر له الملك ويصدر خلال ساعات قرار آخر يستثني ابناء اليمن من القرار السابق ويوصي بمعاملتهم كالسعوديين تماما بموجب إتفاقية الطائف الموقعة بين الإمام يحيى حميد الدين، رحمه الله، ونظام آل سعود عام 1934.
في ذكرى اغتيال الرئيس الحمدي رحمه الله، نسترجع صورة مدرس مادة التاريخ في مرحلة الثانوية وهو يتحدث بلسانه ودموعه عن الرئيس الخالد، وكيف قدم نفسه فداء لطموحات شعبه في تحقيق حياة كريمة لكل مواطن داخل اليمن الواحد الموحد بالقانون والعدل والمساواة، وأنه قبل مقتله كان في طريقه إلى العاصمة الغالية عدن ليكمل أو يعلن مع الرئيس سالم ربيع علي رحمه الله الوحدة اليمنية، وذلك كان سببا دفع آل سعود لقتله على أياديهم الخسيسة في اليمن، والتي عملت فيما بعد على تفكيك مشاريع ومؤسسات الدولة المكونة في عهده وإعادة الشعب والبلاد إلى عصور ومراحل الحياة الخالية من القانون والعدالة.
لقد ألقى الناس السلاح طواعية في عهده لأنه كان قدوتهم ومثلهم الأعلى في ذلك، واتجه الجميع للتعليم والبناء وشق الطرقات وغرس الأشجار التي تم اقتلاعها بعد قتله حقدا وحسدا من قبل الأنفس المريضة الحاقدة، والتي قامت أيضا باسلوب “الهجامة” بنهب الحدائق الجميلة في العاصمة والمحافظات الأخرى وتحويلها إلى قصور ومحلات تجارية بعد ان كانت متنفسا للناس ومزينة للبلد وملكا للشعب والوطن.
لم يكن رحمه الله يفكر سوى في الوطن وحده وكيف يمكن الدفع به نحو المجد، لذلك عمل محقا على إزالة مراكز القوى والفساد التي كانت حجر عثرة في طريق تقدم اليمن وتطوره، ومنذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة شن ثورته ضد الفساد والمفسدين وطبق قاعدة(من اين لك هذا) المدعومة بعبارته الشهيرة للفاسدين “إنتهى شهر العسل” لتعود لخزينة الدولة مليارات الريالات لتستخدم في بناء البلاد وتعميرها,وهو عند قيامه بذلك كله لم ينو أو يرغب في الإساءة لأحد لأنه كان يؤدي واجبه الوطني الذي ألزمه بوضع الوطن فوق كل إسم ومركز قوة، ولهذا ومن ذلك المنطلق كانت ثقته في شعبه كبيرة لكنه لم يكن يعلم أن من بجانبه أهل غدر وخيانة ومكر وعمالة، وعلى أيديهم لقي ربه شهيدا بعد سنوات قليلة نقل البلاد خلالها نحو مصاف التحضر والمدنية المسورة بالقيم والأخلاق اليمنية الفاضلة.
في ذكرى رحيله نستحضر عبارة أستاذ عزيز عاصر فترة الرئيس الشهيد، قال فيها أن الجبناء لم يقتلوه فحسب بل قتلوا اليمن بأكمله، ولم يكتفوا بذلك بل سعوا لاهثين لقتل تاريخه وتشويه سيرته لكنهم لم ولن ينجحوا، لأن التاريخ وإن عاث فيه المرتزقة فترة من الزمن فإن شمس حقيقته تعمي بقوة نورها عيون الحاقدين.
في هذه الذكرى الدامية نتساءل عن قتلة الرئيس إبراهيم الحمدي من هم وأين هم وكم بقي منهم على قيد الحياة؟ ولمصلحة من قتلوه وكيف سكت الناس عنهم وهل من المعقول أن يقتل رئيس بلد دون أن يعرف الشعب من قتله ولماذا؟ وأين كانت القوى التي تتدعي انتماء شهيد اليمن لفكرها وحزبها؟ وكيف تركته وحيدا وماذا عملت (غير التكسب السياسي الرخيص) لتقديم من تعلم أنهم قتلوه إلى المحاكمة لينالوا جزائهم العادل؟ ولماذا تواصل التستر على حقيقة قصة مقتله تاركة الناس في دوامة التحليل والتفكير وإتهام فلان وتبرئة علان؟.
إن من حقنا كشعب أن نعلم ونطلع على الحقيقة كاملة، وعلى كل من يعلمها أن يخرج ويوضح للناس والتاريخ وقائع ذلك المشهد الحزين، وتلك أمانة نعلم أنها في رقاب البعض من الأحياء، لكنهم يمتنعون عن قولها لأسباب ومبرارات لا قبول لها، نستشف من خلالها ضعف أنفسهم وجبن قلوبهم، وعلى أصحاب البيانات الصادرة من “نضال الغرف المغلقة” والتي تتحدث في العموميات أن يحددوا الهدف والأسماء إن كان لدم الشهيد حرمة وقيمة,وما قولهم أن قتلة الرئيس الحمدي يتربعون على عرش البلاد سوى أسلوب مكرر مللناه ويئسنا منه، وحتى لا يجدون أنفسهم شركاء في جريمة الإغتيال يوم أن يقف الجميع بين يدي المولى عز وجل، ويحضر الرئيس الشهيد ويقول-أي ربي هولآء قتلوني وهؤلاء أخفوا حقيقة مقتلي فخذ حقي منهم ,فعليهم أن يقولوا الحقيقة براءة لذممهم أمام الله ثم الناس والتاريخ.
Leave a Reply