لسنا على أبواب استعادة عصر الخلافة في بلاد الأناضول، ولا يزال مصطفى كمال أتاتورك في قعر قبره يثير لدى ملايين الأتراك النخوة الوطنية التي أطلقها قبل نحو قرن من الزمان وأدت إلى تحرير تركيا من أيدي المحتلين عقب هزيمة دولة الخلافة في الحرب الكونية الأولى إلى جانب حلفائها في دول المحور. لكن ما تشهده تركيا هذه الآونة في ظل حكومة العدالة والتنمية ذات الطابع الإسلامي يثير التقدير في نفوس العرب رغم الإرث الاستعماري الطويل والمقيت الذي طبع ذاكرة المنطقة في ظل الحكم العثماني لها على مدى أربعة قرون.
ظلت تركيا العلمانية، و”عدوة الإسلام” و”محطمة الخلافة” تهفو إلى القارة البيضاء وتمني النفس بالانضمام إلى اتحادها منذ ألغى أتاتورك (أبو الأتراك) الأحرف العربية من لغة البلاد واستبدلها بالأحرف اللاتينية ومنع المدارس الدينية وغير الأزياء فارضا اللباس الغربي بدلا من الطرابيش والعمامات، وحصن هذه الإجراءات بقوانين تولت حراستها مؤسسة الجيش وهي التي ظلت لعقود طويلة “العين الحارسة” للعلمانية التركية. وظلت القارة البيضاء تبيع الوهم إلى العلمانيين الأتراك بقرب انضمامهم الى الاتحاد الأوروبي والتنعم تاليا بالفوائد الاقتصادية العظيمة للدول المنضوية فيه، حتى أدركت المؤسسة العلمانية التركية أن روابط الدين والثقافة التي تجمع الأغلبية الساحقة من الأتراك مع جيرانهم العرب والمسلمين ذوت ولكنها لم تمت في يوم من الأيام.
يستحضر المرء تلك اللحظة السياسية التاريخية التي أدخلت حزب العدالة والتنمية برئاسة عبدالله غول وحليفه رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان إلى قلوب الملايين من العرب والمسلمين، حين تصدى أردوغان لعجوز الصهيونية شمعون بيريز خلال ندوة على هامش مؤتمر دافوس الاقتصادي في مطلع هذا العام وأنبه بعنف على الجرائم التي ارتكبتها دولته بحق الشعب الفلسطيني خلال العدوان الواسع على قطاع غزة، ثم غادر الندوة احتجاجا على انحياز مديرها الى جانب الرئيس الإسرائيلي.
كانت تلك اللحظة أول مؤشر “إعلامي” على مغادرة تركيا أوهامها التاريخية، واندفع مئات الألوف من الأتراك الى مطار عاصمتهم لاستقبال رئيس حكومتهم الشجاع ومحضه الدعم لمواقفه الجريئة التي أعادت تصويب البوصلة التركية بعد عشرات السنين من ارتهان الأتراك لأحلاف مناهضة لمصالح شعوب المنطقة.
ولا مبالغة في القول إن المواقف التي تتخذها القيادة السياسية لتركيا هذه الآونة قد هزت كيان اسرائيل بأكثر مما هزّته كل الحروب العربية-الاسرائيلية التي خيضت على مدى الستين عاما المنقضية على قيام الكيان الصهيوني في أرض فلسطين.
فالدولة العلمانية التي ولدت من حطام السلطنة العثمانية في ظروف كانت الأقسى على الشعب التركي في تاريخه المعاصر قد حزمت أمرها وقررت الانخراط مجددا في النسيج السياسي والاقتصادي والثقافي لمنطقة حكمتها على مدى أربعة قرون وأدى انهيار امبراطوريتها الى قطيعة معها وانحياز لم تؤمن به الأغلبية الساحقة من الأتراك، ضد قضايا محقة وعادلة لشعوب جارة ذاقت أهوال الاستبداد والقهر، زمناً طويلاً على أيدي السلطنة العثمانية تحت عباءة الخلافة الاسلامية، وزمناً آخر على أيدي المشروع الاستعماري الصهيوني الذي زرع بذرته الغرب لحماية مصالحه الاقتصادية في منطقة زاخرة بالثروات، وتعويضا عن “عقدة ذنب” تجاه “الاضطهاد التاريخي” لليهود في ذلك الغرب المسيحي.
ومن يستمع الى ردود الفعل الاسرائيلية الهيستيرية على عرض التلفزيون التركي لمسلسل “الوداع” الذي يظهر وحشية الاحتلال ضد الأطفال والنساء في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يدرك مدى الرعب السياسي الذي تعيشه المؤسسة الحاكمة في إسرائيل من الانعطافة التركية الحادة باتجاه نصرة شعب أعزل إلا من إرادة البقاء على أرضه، فيما معظم الأنظمة العربية تداري تخاذلها بتصريحات لم تعد تسمن من جوع.
فالمؤسسة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل تبنت منذ اغتصاب فلسطين قبل ستين عاما ونيف استراتيجية تطويق المنطقة العربية بحليفين وثيقين مع تركيا العلمانية وايران الشاهنشاهية. وإذ سقطت امبراطورية الشاه في ايران قبل ثلاثين عاما، انكسر أحد جناحي الأمان الإقليمي لإسرائيل، وبقي الجناح الآخر المتمثل بدولة أتاتورك التي ارتبطت بعلاقة وثيقة مع الكيان الإسرائيلي منذ نشأته.
إن ما نشهده حاليا من توتر العلاقة التركية الإسرائيلية، وأبرز وجوهه الأسبوع الماضي، منع سلاح الجو الاسرائيلي من المشاركة في مناورات “نسر الأناضول” رغم الاحتجاج الأميركي والبريطاني والإيطالي، يؤكد أن المسار الجديد للدولة التركية قد وضحت معالمه، وأن الدولة التي خاصمت محيطها الطبيعي طمعا بـ”جنة” الاتحاد الأوروبي، قد استعادت توازنها السياسي و”الأخلاقي” والمصلحي.
لكن يبقى على المحيط العربي بأنظمته وكياناته أن يستلهم من الشجاعة التركية ما يعينه على فك ارتهانه لإرادات القوى العظمى ويلاقي اليد التركية الممدودة دون خوف أو تردد.
فهل العرب مستعدون لاستقبال واحتضان السياسة التركية الجديدة بمواقف أكثر جرأة وانفتاحا ومداواة جروح التاريخ؟ أم أنهم سيبقون على ترددهم وارتهانهم لسياسات مناهضة لمصالح وأماني شعوبهم؟
لقد انتفضت تركيا “العلمانية” لكرامتها الجريحة، وضد مسلسل الإهانات التي ابتلعتها على مدى سنوات طويلة من “طلب القرب” و”خطب الود” مع أوروبا، وها هو وزير خارجيتها داود أوغلو يجاهر بأن بلاده ألغت مناورات تشارك فيها اسرائيل، لأسباب سياسية تتعلق باضطهاد الفلسطينيين والتنكيل بهم، وهاهي تركيا تتصالح مع نفسها ومع أماني شعبها وتطلعاته وتفتح حدودها وتزيل أسلاكها وألغامها مع سوريا، البلد العربي الذي كان يمكن أن تدخل معه في صراعات دموية في أكثر من محطة خلال العقدين الأخيرين!
اسرائيل “حزينة” ومتوترة هذه الآونة ويقلقها مسلسل على التلفزيون التركي، فهل يستثمر العرب هذا التغير الواعد في السياسة التركية في ارساء سياسة اقليمية تقوم على المصالح المشتركة لشعوب المنطقة وفرض رؤية لحل الصراعات فيها وعليها بما يلبي هذه المصالح ويفرضها على أجندات القوى الكبرى؟
وأما الحدود العربية –العربية فيخشى إذا طالبنا بفتحها أن يقال “ما هذا الحكي التركي”؟ لكن ألم يصبح “الحكي التركي” أفصح من كل اللغات السياسية للعرب؟ ألم يحن الوقت لـ”دبلجة” الكلام السياسي التركي المشرف لأردوغان وغل وأوغلو وغيرهم، على شاشات نشرات الأخبار العربية المملة، على غرار دبلجة المسلسلات التركية الاجتماعية لـ “نور” و”مهند” و”يحيى” و”لميس”.
ما أحوج العرب إلى “تتريك سياسي” هذه الأيام!
Leave a Reply