ولكن “الموضة” تقوم، كفن، بعمل جبار ومتواصل، لتغيير أذواق الناس في اللباس، لدرجة أن اللبس على الموضة يصبح بمثابة خروج على السائد والعام والمناسب، وما يبدو للوهلة خروجا عن الأناقة، يصبح بعد قليل من الزمان، أناقة، من نوع آخر، وهكذا دواليك!
مهما يكن، فإن طريقة اللباس والهندام تحتوي على رسائل متعددة، وتبعا لكل فرد. فاؤلئك الذين يقتفون “الموضات” ويتابعون آخر الصرعات والموديلات، يريدون أن يؤكدوا تمايزهم واختلافهم وعصرنتهم، علما أن “الموضة” نفسها تحول مجاميع كبيرة من البشر.. إلى مجرد أشكال مستنسخة ومتشابهة، تماما كالفراريج! والسؤال.. هل تستطيع الثياب دوما إيصال الرسائل إلى الآخرين؟!
المهاتما غاندي الذي ذهب في شبابه إلى بريطانيا من أجل دراسة الحقوق، والذي سجل دورات للرقص والكمان أسوة بالعائلات المرموقة، خلع بعد عودته إلى الهند من أجل متابعة مقاومة الاستعمار الإنكليزي (السلمية) خلع “الثياب العصرية” وارتدى الزي الهندي التقليدي الخاص بأدنى طبقات الشعب، في رسالة واضحة إلى أنه لا يخجل من الانتماء إليهم، والانخراط بهم وتمثيل آلامهم ومعاناتهم.
الكوفية الفلسطينية التي أصبحت شعارا للفلسطينيين، والتي لازمت “أبو عمار” طوال عقود، كانت لفترة من الزمن سبة لبعض الفلسطينيين. بالأصل.. كان القرويون الفلسطينيون يرتدونها، وكان المدينيون الفلسطينيون يسخرون منهم بسبب ذلك. وفيما بعد.. أصبح الثوار يتلثمون بها، فأصدرت القوات البريطانية قرارا باعتقال كل من يرتدي الكوفية، فكانت ردة الفعل.. أن الفلسطينيين جميعهم –فلاحين وأهل مدن- ارتدوا الكوفية لإحباط وإفشال القرار الإنكليزي. تخلى الكثيرون من الفلسطينيين عن ارتداء الكوفية وواظب أبو عمار على ارتدائها حتى أصبحت شعارا، ناهيك عن بزته العسكرية التي تولع بها إلى حد الشغف، بنفس الطريقة التي تولع فيها بلقب “الجنرال”.
الإيرانيون الذين أنجزوا الجمهورية الإسلامية الحديثة قاربوا الكثير من مفاهيم الدولة الحديثة، ولكنهم أبدوا –وألزموا حلفاءهم- حساسية بربطة العنق (الكرافة) على أساس أنها رمز من رموز الاستكبار.
الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم تخلى عن “الفيلد” العسكري الذي كان يفضله الشيوعيون، وعاد إلى ارتداء “الجلابية” المصرية ليكون إلى صفوف الفلاحين والغلابة، وكذلك فعل مواطنه الفنان محمد نوح الذي يفضل ارتداء “الجلابية الصعيدية” بأكمامها الواسعة.
وما دمنا في مصر.. فقد عرف عن الرئيس السادات اهتمامه بأناقته التي كانت سببا لانتقاد البعض الذين اتهموا الريس بالتبذير. وبعد سنوات كثيرة من رحيل السادات، رد ابنه جمال على تلك الانتقادات برد حاسم.. على أساس أن الخياط مصريا!
عقيد القارة السمراء منصة أزياء فولوكلورية وحداثية تبث على طوال الأربع والعشرين ساعة في اليوم.
وماذا بعد؟ هل تعرفون لماذا يرتدي الأفروأميركيون بنطلوتهم على تلك الطريقة.. إلى الدرجة التي تبدو فيها ملابسهم الداخلية؟ هل هي مجرد موضة؟
تقول إحدى الروايات، إن الأسياد البيض الأميركيين كانوا إذا أرادوا معاقبة “العبيد”، أو فرك آذانهم، يطلبون منهم خلع “الأحزمة الجلدية” فتسحل بناطيلهم، ما يثير ضحك الآخرين واستهزائهم!
والشباب الأفروأميركيون بطريقة لبسهم هذه، قد يثيرون السخرية والضحك، ولكنهم لا يأبهون لأنهم يفعلون ذلك عن سابق قصد وإصرار وموضة، وفي ذلك رسالة، وأية رسالة!
وفيما يخص مسألة “الحجاب” الذي يريد له البعض أن يكون مرادفاً للأدب والحشمة، بينما تريده بعض الفتيات بصفته ملمحاً من ملامح الهوية، والبعض الآخر منهن يلبسنه لمجرد أنهن يؤمن بمقولة “إلبس على ذوق الناس..” وفي هذه الحال، ربما يكنّ من النوع الذي “يأكل على ذوقه”!
Leave a Reply