عدم استكمال تنفيذ بنود اتفاق الطائف الاصلاحية كرَس المذهبية السياسية
انبثاق السلطة في لبنان يبدأ من مجلس نيابي لا طائفي ينهي الدكتاتوريات الطائفية
بيروت –
منذ أن خرجت القوات السورية من لبنان، قبل أكثر من أربع سنوات، وهو يتعثر في إطلاق مسيرة الدولة، وتثبيت الاستقرار السياسي، وترسيخ السلم الأهلي، لأن من كان يرعى تطبيق اتفاق الطائف بقرار إقليمي-دولي، اتخذ في العام 1990، سُحب منه وباتت الساحة اللبنانية مكشوفة على كل صراعات المحاور العربية والإقليمية والدولية، ودخلت إليها أجهزة استخبارات عدة، فلم يعد الأمن محصنا، وقد اهتز في أكثر من محطة، فوقعت عمليات اغتيال وتفجير، وكاد الوضع الأمني أن ينزلق نحو حرب أهلية، بعد أن تعزز الخطاب الطائفي والمذهبي.
خرجت سوريا من لبنان، في محطة كان على اللبنانيين أن يستكملوا ما بقي مما اتفقوا عليه في الطائف، وكتبوه في وثيقة الوفاق الوطني، التي أصبح بعض بنودها مواد دستورية، إلا أن الإصلاحات الأساسية لم تأخذ طريقها إلى التطبيق، ولاسيما في عناوين إصلاحية منها قانون الانتخاب، إلغاء الطائفية، اللامركزية الإدارية، الإنماء المتوازن، فصل السلطات وتعاونها، استقلالية القضاء، الخ…
هذه المبادئ الإصلاحية التي شكلت المخرج السياسي والدستوري، لإنهاء الحرب العبثية بين اللبنانيين، التي امتدت نحو 15 عاماً، وحصلت على موافقة عربية–إقليمية–دولية، لم تتقدم نحو بناء الدولة، التي في روح وثيقة الوفاق الوطني، هي دولة وجهها لا طائفي، إذ في بنودها ما يؤكد على توجه نحو إلغاء الطائفية، والاتجاه في خارطة طريق نحو قيام دولة مدنية. فتشكيل الحكومة الذي تأخر أشهراً، ليس هو الأزمة، بل انبثاق السلطة الذي يبدأ من مكان آخر، هو مجلس النواب، وأساسه قانون انتخاب خارج القيد الطائفي كما نص اتفاق الطائف.
فليست المرة الأولى التي تحصل فيها أزمة حول تأليف الحكومة، فتاريخ لبنان الحديث يكشف عن ذلك، والسبب يعود إلى المحاصصات الطائفية والمذهبية التي كرسها النظام السياسي، ولم يتمكن اللبنانيون من الخروج منه وعليه، إذ منه تولد الأزمات، منذ أن أبصر النور مع تكوين قائمقاميتين درزية ومارونية في جبل لبنان، أثر الحوادث الطائفية الدامية في العام 1840 – 1860، فكان هذا التوزيع السياسي الطائفي، بداية لنشوء النظام السياسي، الذي رعته الدول السبع التي كانت وصية على لبنان، ووكيلة لطوائفه ومذاهبه، في زمن السلطنة العثمانية التي بدأت تشيخ، ودخلت في عصر “الرجل المريض”.
فبدون إجراء إصلاحات على النظام السياسي فإن الأزمة ستظل قائمة والفتن مشتعلة والحروب الأهلية دائمة، إذ تكمن العلة في تكوين السلطة التي لم يتفق اللبنانيون على شكلها، وإن كانت مقدمة الدستور أكدت على النظام البرلماني الديمقراطي، لكن في كل نتائج الانتخابات التي انبثقت منذ اتفاق الطائف، كانت السلطة فيه، تجمع طوائف لسلطات متعددة، لا لسلطة مركزية واحدة، وأن الانتخابات الأخيرة أفرزت “فدرالية طوائف ومذاهب”، وهو ما يعقد تشكيل الحكومة الحالية، أو أية حكومة أخرى، لأن الخلاف هو حول مشاركة الطوائف في السلطة، وقد حصل هذا الأمر مطلع السبعينات من القرن الماضي، وأدى إلى انفجار النظام السياسي من داخله، حيث شهد العام 1969، أزمة تشكيل الحكومة برئاسة المرحوم رشيد كرامي، ودامت حوالي سبعة اشهر، ولم تُحل إلا بتدخل خارجي، وعقد “اتفاق القاهرة” بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لتنظيم الوجود الفلسطيني المسلح داخل المخيمات وخارجها.
ويكثر الحديث عن ضرورة البحث في وضع النظام السياسي، سواء لجهة تطبيق اتفاق الطائف وهو الأكثر تداولاً، أو إجراء تعديلات عليه، لضمان تمثيل سياسي في السلطة، اكثر منه تمثيل طائفي ومذهبي، والعبور إلى ذلك له عنوان واحد، هو قانون انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي، حيث أخطأ اللبنانيون بعدم إقراره في المرحلة الأولى من بناء دولة الطائف، ولكن تم ربط الإصلاحات السياسية، بمسألة الوجود السوري في لبنان، كما في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وخسر اللبنانيون فرصة، تحررهم من العلة الطائفية، التي هي المرض الذي يعانون منه، منذ نحو قرنين من الزمن، ولم يتهيأوا بعد للشفاء منه، إذ استوطن فيهم، وتساكنوا معه، لكنه تساكن مع السكين المسنونة دائماً، وهي على رقبتهم، تعمل فيهم تقطيعاً وقتلاً على الهوية عند كل أزمة سياسية، وفتنة طائفية.
فالرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري، يدور حول الأسماء والحقائب، ولكنه لا يدخل إلى عمق الأزمة، ومثله يفعل قادة الأحزاب المفروزة على قياس الطوائف والمذاهب، بحيث أصبحت الوزارات سيادية على قياسها، والأخرى الخدماتية توزع على أصحاب الولاءات السياسية، والتحالفات الانتخابية، بحيث تدور الأزمة على نفسها، ولا خروج منها، إلا بتدخل خارجي، أو انقلاب في الموازين الداخلية، وفي الحالتين يدخل لبنان في حرب جديدة.
لذلك فإن الحكومة المسماة بحكومة الوحدة الوطنية، إذا تشكلت فإنها ستعكس صورة النظام السياسي، وهي لن تكون سوى انعكاسا للواقع السياسي الطائفي المنقسم بين محاور ومعسكرات، إذ يبدو الخارج مؤثراً في الداخل، وما إعلان السفيرة الأميركية في بيروت “ميشال سيسون” بأنها مع حكومة تشكلها الأكثرية فقط دون المعارضة، ما هو إلا إشارة الى ارتباط تشكيل الحكومة بالقرار الأميركي الذي يرفض أن يتمثل في الحكومة حزب مقاوم هو وفق مزاعم الإدارة الأميركية “تنظيم إرهابي” أو أن يدخل تيارا سياسيا مثل “التيار الوطني الحر” إلى الحكومة، متفاهم مع المقاومة، ومنحازا إلى المحور السوري الإيراني، وأبعد المسيحيين عن الغرب وأعادهم إلى مشرقيتهم.
إن ما سمح للسفيرة الأميركية وغيرها من السفراء بالتدخل في الشؤون اللبنانية، هو النظام السياسي الطائفي، وقد أعادنا إلى زمن القناصل في القرن التاسع عشر، حيث كان لهم القول الفصل في تقرير سياسة لبنان، ولن يتغير هذا الواقع إلا مع تغيير صيغة النظام، ونزع الوصاية الخارجية عنه نهائياً، وهذا الأمر لن يتحقق إلا مع إجراء إصلاحات جذرية وحقيقية، تبدأ ليس في تشكيل الحكومة بل بانبثاق السلطة، وتفتيت مجلس النواب من الكتل الطائفية، وهي بعد الانتخابات الأخيرة متقاربة في الحجم، ومتوازنة إلى حد ما في التمثيل، إذ تم احتكار تمثيل الطوائف والمذاهب، بسبب النظام الأكثري واعتماد القضاء في الانتخابات، حيث كان الخطاب الطائفي والمذهبي هو البرنامج، والشعارات الطائفية عناوين المعارك الانتخابية، وصناديق الاقتراع مشاريع مقابر جماعية تنتظر اللبنانيين، لأن ما فيها من أوراق، كان رصاصا وقذائف يضعها كل فريق طائفي في صندوق الاقتراع، يحملها مواطنون مدججون بأفكار إلغاء الآخر وكرهه وتأجيج الحقد عليه.
هذه هي صورة الواقع المأساوي في لبنان، الذي يعيش منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مرحلة انتعاش للحالة المذهبية والطائفية، وأن من خطط لهذه الجريمة، أراد أن ينقل التجربة العراقية إلى لبنان، الذي كان بدأ يخرج من “القبرصة” التي فرضت عليه، ومن “اللبننة” التي امتاز بها عندما مارس كل أنواع التخلف والرجعية والتقهقر الثقافي والحضاري، باللجوء إلى القتل على الهوية، واستخدام الإبادة الجماعية، وارتكاب المجازر، وتنظيم عملية التهجير للمدن والقرى، على طريقة عصابات “الهاغاناه” الصهيونية التي طردت الفلسطينيين من أرضهم في العام 1948، فمارس بعض اللبنانيين النموذج اليهودي نفسه، وتدربوا عليه. فكل ما يجري حول تشكيل الحكومة ليس إلا مظهراّ من مظاهر النظام السياسي المتخلف، وكل ما يقال عن ديمقراطية في لبنان، حتى لو سميت توافقية، ما هي إلا ديمقراطية شكلية، ولا تعبر كما يحددها العلم السياسي والدستوري، من أنها حكم الشعب للشعب، بل هي دكتاتوريات طائفية ومذاهبية، تحكم اللبنانيين عبر زعماء تكرسوا بالخطاب الطائفي والمذهبي، وتكونت زعاماتهم على أساس التخويف والخوف من الآخر في الطائفة الأخرى والمذهب الآخر، ويستعصي بناء الدولة، إذا لم تكن مزرعة لمن يديرها من الطبقة السياسية التي لم ينل أحد منها بعد رتبة رجال الدولة.
فاللبنانيون يعيشون اليوم دون حكومة، وقد اعتادوا على أن لا يكون في وطنهم دولة، وقد ابتلوا بثقافة التبعية والخنوع، لذلك فإن سؤالهم عن تشكيل الحكومة قليل جداً، وكلامهم حول النظام السياسي ليس مفيداً، لذلك هم استسلموا للدكتاتوريات الطائفية، التي سميت زوراً ديمقراطية توافقية، وتشكيل الحكومة يدخل في إطارها.
Leave a Reply