على ضوء زيارة قصيرة قمت بها في الآونة الأخيرة إلى الوطن، استوقفتني أمور ننكرها وأمور نسلم بها وأمور بين ذلك سبيلا. فالواقع يفرض شيئا والواجب يفترض أشياء، فإذا ما نظرنا إلى الواقع نجد أن هناك تطرفا في المعالجة من قبل السلطة والمعارضة فالسلطة تنظر إلى الأمر على أنه نوع من أنواع التمرد الذي يجب قمعه، والمعارضة ذهبت إلى النداء بالانفصال حسب المقولة “داوها تشفى قال اقطعها تصح” في حين صار الشعب اليمني يعاني الأمرين من تصرفات السلطة وحماقات المعارضة.
فالكثيرون ممن كان لهم موقف من أحداث 1994 ضد الانفصال، فرض عليهم واقع جديد لا يحسدون عليه حيث كانوا يأملون إن أحداث 1994 هي نهاية مرحلة التمزق وانطلاق مرحلة إعادة لحمة الوطن الواحد الموحد المبني على العدل والنزاهة وهي المقومات الطبيعية لانطلاقة التنمية الاقتصادية وعودة الثقة للأمة لتربعها مكانها اللائق بها.
لقد مرت سنوات عجاف سادت فيها الفوضى وانكمشت فيها التنمية وزادت فيها الأسعار وساد اللامنطق وذهبت أصوات الغيورين أدراج الرياح وساد منطق “إنما العاجز من لا يستبد” فتهيأت النفوس لتقبل منطق الانفصال نتيجة طبيعية لتعاطي العديد من المحسوبين على السلطة وقدرة المعارضة على توظيفها لصالح دعوات الانفصال، الذي كان إلى عهد قريب يقرن من ينادي به بالخيانة والعمالة وغيرها من التسميات. فانقسم من كان ضد دعوة الانفصال إزاء الوضع القائم إلى عدة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يقول بوجوب تصحيح الأوضاع ومحاربة الفساد وهي دعوة حق، إن كتب لها النجاح فالسؤال المطروح من يحاسب من؟ فبدون إرادة الدولة ومباركتها وتعاونها فليس لهذا الافتراض من منطق فهي تمتلك دون غيرها آليات التغيير وتنفيذه.
الاتجاه الثاني: يرفض الانجرار وراء شعارات الحراك ويتوجس خيفة، خاصة أن هناك تراكم من الذكريات المؤلمة التي مر بها الجنوب على يد الحزب الاشتراكي الذي عاث فيها فسادا، فلا زالت تلك الذكريات تحول دون الانجرار إلى مرحلة مجهولة العواقب خشية أن تكون تلك الشعارات غطاء للعودة للعسف وسفك الدماء ودكتاتورية بغيضة وشمولية مقيتة، فقد كان شعار الجبهة القومية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وفي غفلة من الزمن تحولت إلى ماركسية لينينية. أما الآن فقد ظهرت بعض الشواهد من الخطف والاغتيالات (رغم عدم معرفة الجاني الحقيقي) إضافة إلى الارتجالية والتمترسات الشللية والتخبط ثم اللهاث وراء التزعم بل التوريث في حين غابت أو غيبت رموز وقيادات عرفت بواقعيتها. لكن المشكلة تكمن في السلطة التي تقف عاجزة عن ضبط المحسوبين عليها فصاروا أخطر ليس على الوحدة فحسب وإنما على الوطن بأكمله، فخذلان السلطة لهذا التيار تكمن في أنها لم تمده بالأسباب التي تكون مقدمة لاصطفافه معها كضبط جماح هذه العناصر الشاذة، فقد سمعنا كثيرا بوسائل الإعلام عن معالجات لكن لم تترجم الى واقع محسوس يعيشه المواطن ويطمئن إليه. وشعار هذا التيار حاليا “فخار يكسر بعضه”، أي الانحياز للحراك ولا اصطفاف وراء السلطة.
الاتجاه الثالث: لازال عنده أمل من أن السلطة ستتنبه إلى خطورة الأمر إن طال الزمن أو قصر والتضرع إلى الله أن يوقف التدهور الاقتصادي والأخلاقي قبل حدوث الكارثة، فالوقت ليس لصالح السلطة، فكثير من الأوراق بيدها إذا لعبتها السلطة بالطريقة الصحيحة فأول هذه الأدوات:
الورقة الأولى: نية التغيير (النية الخالصة) بصدق. قال تعالى : “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، ولها عدة أوجه:
– الوجه الأول: مراقبة الله عز وجل فرأس الحكمة مخافة الله، فكم لدينا من الخبراء الذين لا ينتجون غير الفشل والعجز لإنهم لاهثون وراء مصالحهم الخاصة وإن تعارضت مع المصلحة العامة.
– والوجه الثاني: الاستقامة، قال تعالى: “ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا”.
– والوجه الثالث: الرجوع إلى الله تعالى، قال رسول الله (ص): “إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا حتى ترجعوا إلى دينكم”.
– والوجه الرابع: تحقيق التوحيد، قال تعالى: “وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأؤلئك هم الفاسقون”.
– الوجه الخامس: ترك الذنوب والمعاصي، قال تعالى: “وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير”. وخلاصة التغيير هو تغيير القلوب للصلح مع الله تعالى الذي بيده مقاليد السموات والأرض وبيده مفاتيح الخير وهو على كل شيء قدير.
الورقة الثانية: فهي البحث عن المخلصين والنزيهين فما عظمة البلد أن تلد الغيارى والصادقين وإحلالهم محل الفاسدين بعيدا عن الحزبية والمناطقية وهي المقدمة لإرساء دولة النظام والقانون.
الورقة الثالثة: عودة العسكر إلى ثكناتهم وترك شؤون الأمة تدار من قبل الأجهزة المختصة. أما أن يكون كل مدير أمن حاكما مطلقا في المنطقة الخاضعة لسلطاته فهذا منتهى الاسفاف والعسف، ناهيك عندما تعطى هذه الرتبة لإنسان جاهل، جشع غشوم فإنها الكارثة بعينها، حيث يستعمل سلطته ليس لتثبيت الأمن والقانون وإنما لمنافعه الخاصة، ويدير البلد وكأنها ملك يمينه، يعز من يشاء ويذل من يشاء ويأخذ ما يشاء.
الورقة الرابعة: المحاسبة.. فكم سمعنا عن الفاسدين والفساد ولكن لم نر إجراءات رادعة تنهيه أو تحد منه.
الورقة الخامسة: العدل: فيجب إعطاء كل ذي حق حقه فالكل يجب أن يكونوا متساوين في حقوق المواطنة فليس من العدل أن يتم خطف الأجانب للضغط على السلطة لبناء مستشفى أو شق طريق أو تشييد مدرسة فهذا حق مستحق على الدولة وليس منة منها وبالتالي فإن اللجوء إلى هذه الأساليب إنما هو جرم يتناقض مع أية مطالب شرعية.
والخلاصة:
إن هناك الكثير والكثير مما يجب عمله متى توفرت الإرادة والإخلاص من أبناء هذا البلد وحمايته من أي منزلقات بل هناك الكثير من أبناء الجنوب يتمنون أن يعطوا الفرصة لكي يكونوا الذخيرة الحية التي تبني وتعمر، تصل ولا تقطع، توحد ولا تشرذم، تضحي ولا تطلب الأجر إلا من الله تعالى، توقظ الأمل ولا تزرع اليأس، شعارها “الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور”.
وحسب ما أسلفنا فإن أسلوب التهييج ليس هو الأسلوب الناجع وإنما مراجعة وإسداء النصح لأئمة المسلمين وعامتهم فلا يؤدي محاربة الفساد إلى الأشد فسادا ولا محاربة المنكر إلى ما هو أنكر منه وهل هناك أشد نكرا من سفك الدماء وإشعال الفتن وزعزعة الأمن ونشر الذعر فإلى كل من يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا نناشده الالتزام بالطرق الشرعية في النصح ومعاودة نقد الذات وإصلاحها وعدم الإنزالاق إلى مهاوي الردى والانجرار إلى الفتن فرب متكلم بكلمة لا يلقي بها بالا من سخط الله تهوي به في جهنم سبعين خريفا فالمرض ليس بالحكومة فقط والمرض قد عم الأمة فلا بد من علاج تعود فيه الأمة للصلح مع الله تعالى عسى أن يبدل خوفها أمنا وفقرها غنى وهوانها عزا وضعفها قوة، إنه على شيء قدير.
والأمر إليك أيتها الحكومة إما أن تبادري بالإصلاح وتكسبي معركة التنمية وحب الأمة وإما المراوحة (محلك سر) عندها نقول “لا رحم قتيلا بعد حذاره”.
Leave a Reply