هل يسحرك الخريف مثلي؟
إذا كنت تحب الخريف مثلي فتابع قراءة هذه الكلمات، وإلا فلك كل العذر أن تقلب الصفحة وتقرأ موضوعا آخر.
في الخريف أحب أن أكون غريبة وبعيدة من غرباء هذه المدينة البعيدين ويحلو لي أن أمشي بصمت تحت الأشجار. أدفع بقدمي أكوام الورق الملون فيشعرني حفيفها بالشجن. أنظر إلى المدينة، فأشعر كأنها تلملم ما فرشته على بساط الصيف، تلملم حالها، ترجع إلى زواياها ويعود المسافرون إليها وإلى أعمالهم وروتينهم الأول. تتقلص المساحات الخارجية وتكتسي الزنود العارية وتنزل الستائر وتتراجع مقاهي الرصيف نحو الداخل.
بالنسبة لي، الخريف مهرجان فرح الألوان. ألوان الأشجار وألوان السماء. تزيد حمرة المساء عند الغروب، يهجم الليل سريعا وتبقى خيوط حمراء في الأفق. في لبنان، كنا نعود إلى المدرسة في الخريف، ننهمك في تجليد الكتب الجديدة وشراء الحقائب وثياب جديدة قليلة، نتعرف على المعلمات والمعلمين الجدد والزملاء الجدد أيضا. وفي الخريف أيضا، كنا نودع الصيف، ونغلق أبوابه الواسعة ونهاراته الطويلة في العمل في الحقول والبيادر واللهو مساء بألعاب بدائية مع رفاق اللعب الذين تعرفنا عليهم في الصيف ثم رحلوا.
أمشي في الخريف هنا، في هذه المدينة. خشخشة الأوراق تهمس لي بود فأتذكر الأشياء التي وعدت بها نفسي ولم أنفذها. أتذكر المواعيد الخائبة والفرص الضائعة والساحات المهجورة في الضيعة البعيدة. أتذكر ألعابنا التي هجرناها في الصيف والبحث عن اللاشيء ومطاردة السمر والسهر خوفا من الضجر حيث كان الوقت طويلا ويجب قتله بأية لعبة سخيفة.
هل الخريف هو الذي جرني إلى هذه الذكريات؟
شخصيا يسحرني الخريف في هذه المدينة الأميركية وكل المدن الغربية. في المدن الغربية نقدر أن نرى الأشياء كأنها تتحرك في شريط سينمائي لا علاقة لنا بها –نحن الشرقيين- نقف جانبا أو على رصيف عالم يتحرك والأشياء تجري. طائرات وقطارات وبواخر تمضي إلى البعيد. رفوف طيور ترحل وأخرى تمر من هنا. وأنا، أشعر كأني مثل هذه الطيور العابرة في سماوات المدن. مجرد عابرة والعالم يتحرك في اتجاه آخر نحو مجهول لا أعرفه، يمضي مسرعا هاربا لا يعرف إلى أين، مدفوعاً بقوة يستسلم لها. أسأل نفسي أحيانا أين يمضي هؤلاء وماذا يريدون وماذا يفعلون؟ أشعر كأنني ورقة بين هذه الأوراق الخريفية مرمية على الرصيف سوق تسحقني قدم ما وتجري وتجري.
في القرية زمان، كنا في الخريف نقول: هذا فصل المونة (المؤونة). إعمل في الصيف وإجمع في الخريف لتكون لك مؤونة في الشتاء. الآن.. أقول: تموّن بالأصدقاء الجدد. تمون بالحب. الحب الذي لا يفسده الوقت. الحب المصفى من كل ما يهترئ ويتلف ويذبل. الحب الخالي من كل ما يجب أن يؤكل بسرعة وينتهي بسرعة.
تزود بمؤونة الدفء الروحي. لا تذهب إلى الشتاء وحيدا. ادخل الشتاء الطويل في هذه المدينة مع حبيب أو كلمات حبيب. ادخل الشتاء مع حلم طويل تقدر أن تغزله في ليالي الوحدة والبرد. ادخل الشتاء مع أمل تشتغل عليه وتغذيه من بذور المحبة والنقاء في صدرك ليورق في الربيع القادم.
مهما كنت مشغولا أو منهمكا أو مستعجلا أيها القارئ العزيز، لا يكلفك شيئا أن تنظر حولك وترى الطبيعة الجميلة في الخريف، ولا تنسى أن تسبح الله الخالق القادر على هذه المناظر التي لو حاول أمهر الرسامين تصويرها لما استطاعوا. ولا تنسَ أن تحمده تعالى على نعمة البصروتشكره لأنك تعيش في مدينة تستطيع أن تمشي فيها وتنظر حولك بدون خوف. كم أتمنى لو أستطيع أن ألف هذه المدينة برداء مخملي ملون هذه الأوراق لأجمعها من عفونات البشر والفساد والتقاتل على المال.
Leave a Reply