ليس بإمكان الكتابة عن العراق أن تحيط، على وقع التطورات الدموية التي تتوالى على أرضه، بجوانب الأزمة التي تمسك بخناق هذا البلد العربي الغني بثرواته وتنوعه الإنساني والحضاري، منذ وقوعه في براثن الغزو ثم الاحتلال.
فالمآسي والكوارث الإنسانية التي تتعرض لها بلاد الرافدين تجعل الكلام عنها ضئيل الأثر. فأي كلام أو تحليل سياسي كاف لوصف التفجيرات التي ضربت بغداد بمؤسساتها ووزارتها في الأربعاء والأحد الداميين؟ نحن بإزاء وضع متفجر يرقى إلى مستوى الحرب الأهلية وإن ظلت هذه الحرب تتخفى وراء مسميات متعددة، لأسباب “نفسية” لاتزال ترفض الاعتراف بالمنزلق المذهبي والعرقي الخطير الذي دخل فيه العراق منذ رعت إدارة الاحتلال توزيع النفوذ الجديد للأعراق والمذاهب. وبعدما كان الحديث عن قوميتين يشار إليهما بـ”الكرد” و”العرب”، باتت آذان المراقبين تتآلف مع تصنيفات جديدة مثل الكرد والعرب السنة والعرب الشيعة والتركمان.. ألخ.
هذا الوضع الدموي المتفجر والذي برزت أحدث تجلياته في التفجيرين الرهيبين لمبنيي وزارتي العدل والبلديات على تخوم “المنطقة الخضراء” يحمل كل يوم جديداً، ويصعب تصور كيفية الخروج منه على مشارف تنفيذ القرار الأميركي الاستراتيجي بالانكفاء عن ذلك البلد الذي حولته الإدارة الجمهورية الأميركية السابقة إلى حطام عمراني وإنساني دون أن يرف لها جفن.
على أن محاولة استنباط أو استشراف احتماليات الوضع العراقي لا بد أن تنطلق من واقع تحطيم الدولة العراقية والعبث بالنسيجين العرقي والمذهبي لهذا البلد العربي ذي التركيبة السكانية شديدة الحساسية.
فقد سوغت الإدارة الأميركية السابقة لنفسها معاقبة بلد بشعبه وطوائفه وأعراقه بجريرة نظام دموي دكتاتوري غير آبهة بما يمكن أن تجره عملية العقاب الجماعي هذه ضد الدولة والجيش العراقيين من كوارث إنسانية واجتماعية واقتصادية على ملايين العراقيين الذين باتوا يعيشون هاجس الأمن ورغيف الخبز وحبة الدواء كل يوم. ناهيك عن النزف البشري الحاصل خصوصا لأقليته المسيحية التي تظافرت معظم التنظيمات الفالتة على اضطهادها والتنكيل بها، لا لشيء إلا للإمعان في تدمير ما تبقى من تنوع حضاري في هذا البلد العربي الذي يعد مهدا للحضارات الإنسانية المتعاقبة.
ولقد نجحت السياسة الأميركية المنتهجة حيال العراق في إرساء وترسيخ مفاهيم الانتماء العرقي والمذهبي منذ ما قبل غزو العام 2003 حينما رسمت خطوطا بالطول والعرض لما زعمت أنه يشكل حماية للأقليات الكردية شمالا والشيعية جنوبا، تساعدها في ذلك غطرسة وتوحش نظام مارس كل أنواع القمع والاضطهاد ضد شعبه، مما شكل مدخلا مشجعا لتلك السياسات التقسيمية على أسس إثنية ومذهبية، ثم جاء الإرهاب الذي يتفيأ بالعباءة الإسلامية ليضفي، بدم التناحر الأهلي، “شرعية” على تلك الهويات العنصرية المنبثقة من دخان الحرائق، والانفجارات في أجساد الأطفال والرجال والشباب والنساء في مواقع عملهم وأماكن تسوقهم، وحتى داخل بيوتهم التي لم تعد تعرف الأمن والأمان في ظل الأوضاع المتفجرة السائدة.
فقبل أقل من شهرين على الانتخابات البرلمانية، وعلى مبعدة أقل من سنتين على موعد الانسحاب العسكري الأميركي الذي تعهدت بتنفيذه إدارة الرئيس باراك أوباما، لايزال العراق يرزح تحت أعباء الانقسام المذهبي والعرقي مشكلا مشهدا قاتما ومقدما احتمالات مرعبة لما يمكن أن يسود في “أرض السواد” بعد تنفيذ الانسحاب الأميركي.
والأخطر مما سبق أن كل شيء في عراق اليوم قابل للقسمة، حتى ضمن التحالفات المذهبية المتجانسة، وما شهدته الانتخابات البلدية من اصطفافات، توجها مؤخرا الانشقاق المدوي في صفوف التحالف الشيعي الحاكم، لا يقتصر على مجرد نزاع سياسي على السلطة أو على مركز رئاسة الوزراء بقدر ما يستجيب لمؤثرات وتدخلات خارجية تسعى لامتلاك حصصها في أي صيغة جديدة قد ترتبها نتائج الانتخابات المقبلة ولو بدماء مئات العراقيين وفوق حطام ما بقي من مؤسسات دولتهم أو ما جهدوا في إعادة بنائه على مدى السنوات الماضية.
وتكمن إحدى المفارقات المحزنة المضحكة في الوضع العراقي سريع التبدل في لجوء سلطة الاحتلال إلى اقتراح التخلي عن قانون “اجتثاث البعث” وإلى إعادة الضباط غير المتهمين بجرائم إلى صفوف الجيش والشرطة، بتشكيلها ما أطلق عليه “قوات الصحوة” من الوسط السني العراقي في محاولة لإبعاد نفوذ “القاعدة” بينما لاتزال الأحزاب السياسية القائمة، قاصرة عن تقديم أية مبادرة لبلسمة الجراح العميقة في العراق المفتت والمتناحر، أو العمل باتجاه تحقيق مصالحة وطنية حقيقية تمهد لخروج المحتلين الذي قد يشكل في حال استمرار الانقسام على صورته الحالية وصفة كارثية لما يمكن أن يدخل العراق فيه، وربما عدد من البلدان المحيطة، نظرا لتداخل الأوضاع الإقليمية فيه وتأثيراتها على المتدخِّلين والمُتدخَّل في شؤونهم على حد سواء.
والمجازر الرهيبة التي ترتكب ضد المدنيين، من نوع مجزرة الأربعاء الدامي في آب الماضي، أو التفجير الانتحاري المزدوج يوم الأحد الماضي ضد وزارة العدل ومركز محافظة بغداد، باتت تسفه أي حديث عن “المقاومة” ضد الاحتلال، إذ هي تختزل معظم أنشطة “المقاومة” بقتل أعمى للمدنيين الأبرياء سواء في المراكز الحكومية أو الشوارع أو الأسواق المكتظة بالباحثين عن مورد رزقهم، ناهيك بذلك الترف الإرهابي الذي يتلذذ من حين إلى آخر بتفجير معابد مسيحية أو إسلامية، ويدفع بما تبقى من مسيحيي العراق إلى المغادرة القسرية.
هكذا لا يبدو أن تنظيم القاعدة “الجهادي” مهتم بغير إطالة أمد الاحتلال لتسويغ وجوده وأنشطته، في “مقارعة الاحتلال” ما دام هدفه يقتصر على هذه المقولة، وبعدما أصيبت كل محاولاته لتأسيس “إمارات إسلامية” بالإخفاق.
أما فلول حزب البعث فإنها لا تمتلك ما تقدمه للشعب العراقي غير ضجيج الوعود الإعلامية بعودة باتت مستحيلة إلى حقبة مسؤولة بصورة كبيرة عما آلت إليه أوضاع العراق الحالي.
ومع اقتراب موعد الانسحاب الأميركي الذي يبدو أن إدارة الرئيس أوباما ملتزمة بتنفيذه “مهما كانت النتائج” لابد من الإشارة، إلى تصاعد الضغط الذي تمارسه دول الجوار، وتحديدا سوريا وإيران، طلبا لأثمان مقابل تسهيل الانسحاب العسكري الأميركي، إن على صعيد الجولان المحتل بالنسبة إلى سوريا أو على صعيد الملف النووي بالنسبة إلى إيران أو مقابل حصص للقوى الحليفة لها داخل السلطة العراقية بعد الانسحاب، أو لتكريس ما هو قائم من نفوذ لبعض الحلفاء.
ويمكن القول إن المصالح السورية والإيرانية وسلوك الدولتين الجارتين قد لا يتطابقان بالضرورة. لكن المفارقة المؤسفة والممضة أن حوار طهران ودمشق مع الإدارة الأميركية يجري من فوق رؤوس الحلفاء العراقيين، وما فشل المفاوضات العراقية-السورية المباشرة سوى أحد مظاهر تردي العلاقة وتوجه الحكومة العراقية إلى طلب تحقيق أممي في التفجيرات التي شهدتها بغداد مؤخرا.
وأما المشهد الأكثر إثارة فهو المشهد القائم في إقليم كردستان، الذي يحمل نذر مواجهة بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية، حول الاستفتاء على الوضع النهائي لمدينة كركوك الغنية بالنفط والتي بدونها يصعب على ذلك الإقليم الصمود اقتصاديا والانتقال إلى مرحلة “الاستقلال” عن الحكم المركزي الذي يراود الأكراد منذ عشرات السنين والذي لأجله وبفضل الممارسات الغبية والشنيعة للنظام البائد، شرع الأكراد مناطقهم للنفوذ الإسرائيلي. وأخطر ما هو آت من ذلك الإقليم نتائج استطلاع في صفوف الأكراد تفيد بأن أكثرية تزيد على الستين بالمئة تريد علاقات طبيعية مع الدولة العبرية، بينما تقدم مجازر نظام صدام حسين ضدهم أسرع وأسهل تفسير لمشاعر التعاطف مع إسرائيل أو لتبريرها، وهذا بخلاف التطبيع الحاصل مع أنظمة عربية، حيث ظل التطبيع على مستوى الحكام ولم تتأثر به أية شرائح واسعة من الرأي العام في تلك الدول.
توحي بانوراما المشهد العراقي الحالي أن لا احد يريد للاحتلال أن يتنهي، كل من منطلقاته ومصالحه الخاصة، لكن وحدهم العراقيون يدفعون أثمان هذه اللعبة الإقليمية الأممية من دمائهم التي باتت موزعة على أيام الأسبوع، لكل منها اسم تراجيدي تبعاً لحجم الكارثة وصداها في هذه اللعبة المميتة.
Leave a Reply