خبرٌ مفرح هز “شبه الوطن” في الاسبوع المنصرم حيث قام وزيرالداخلية زياد بارود بزيارةٍ تفقدية للشريط الحدودي في عمق الجنوب المقاوم الذي لم يعرف من الدولة العلية إلا التهميش والاهمال منذ ما يسمى بالاستقلال.
جولة بارود الحدودية التي امتدت من رميش حتى مارون الراس وما بينهما، كانت غير عادية إلى درجة أن إحدى الصحف الوطنية أفردت حيزاً لها في صفحة الرأي. فبارود هو أول وزير للداخلية يزورالشريط الحدودي في مهمة عمل منذ الستينيات! “لقد زار بارود منطقة تقيم فوق برميل بارود، وتقع على خط تماس إقليمي-دولي، منذ ان نشأ الكيان الإسرائيلي فوق أنقاض فلسطين المحتلة، وبالتالي فهي موضوعة بحكم الجغرافيا السياسية تحت مجهرالعديد من العواصم الخارجية التي تكاد تحصي أنفاس الجنوبيين لئلا تتجاوزالخط الأزرق. وحدها السلطة اللبنانية قررت الانكفاء منذ زمن بعيد، لتترك مسؤولية المواجهة المفتوحة مع العدو مناطة بأهل الجنوب وحدهم، بل لعلها كانت تشكل في أحيان عدة عبئاً إضافياً عليهم، إما بفعل التخاذل وإما بفعل التواطؤ”. من هنا تكمن أهمية الزيارة التاريخية حسب الكاتب عماد مرمل في جريدة “السفير”.
تصوروا يا أهل يا كرام أن دولةً تملك علماً ونشيداً وطنياً وطائرتي “هوكر هنتر” عجوزتين مولودتين في عام ١٩٥٩، لا تتفقد جزءاً غالياً من شعبها وارضها التي ذاقت الأمرين وتكبدت الأهوال والمصاعب من عدوٍ شرس إلا مرةً كل نصف قرن.
لم العجلة في تفقد أحوال الجنوبيين فالعجلة من الشيطان؟
ذلك إن الجنوب لم “يشم” رائحة الدولة منذ أن إقتطع ذاك الجنرال الفرنسي السيئ الذكر أجزاءً من فلسطين وسورية عام ١٩٢٠ وضمها إلى جبل لبنان لكي يجعل للطائفة المالكة مقومات وطن، ولكن يبدو أن أنصار الكيانية العنصرية أصحاب نظرية “التطهير العرقي” الفينيقي قد ندموا على ذلك لاحقاً. فاهل الجنوب والبقاع والشمال تحدوا التهميش فلم يتكاثروا ويخلوا بالتوازن الديموغرافي فحسب بل أنهم تعلموا وأبدعوا واصبحوا قمةً في النوعية وليس الكمية فقط (نكايةً بالاقطاع الأسعدي ونظرية بيار الجميل الحفيد). حتى القرى اللبنانية السبع التي سرقتها إسرائيل من تحت أنف الكيان الجديد تناستها الدولة و”شرب ابناؤها المر من أكواعهم”، كما نقول بالعامية، محاولين إثبات هوياتهم رغم أنهم لبنانيون أقحاح أكثر من سعيد “عقل” نفسه بينما غيرهم إستقبل بالاعناق ووجد ألهوية وكل ما يشتهي من المواطنية مثل شربة الماء! ولطالما امتدح مؤرخو الكيانية “معركة المالكية” اليتيمة ضد إسرائيل وكأنها “ستالينغراد” أو معركة “عين جالوت” التي انتهت باحتلال القرى السبع، رغم تقديرنا للجيش الوطني قبل أن تلوثه براثن الكيانية العنصرية وتجعله جيش الطائفة المالكة الحاكمة إلى أن قام الرئيس المقاوم العماد اميل لحود بتصويب عقيدة الجيش وتعريفه من هو العدو ومن هو الصديق بعد ستين عاماً من قيامه (رغم سقطته في مرجعيون وتوزيعه على العدو شاي فتفت فلكل قاعدة شواذ).
حتى كتب التاريخ لم تبال بالاطراف فصبت جل اهتمامها على “جبل لبنان” فقط متجاهلةً تاريخ جبل عامل المشرف ونهضته وتاريخ البقاع والشمال، وانعكس هذا الاهمال “التاريخي” إهمالاً سياسياً وإنمائياً وإقتصادياً بغيضاً حتى أصبحت هذه المناطق خارج “جنة” الحكم والدولة ومناطق منسية. في كل دول العالم الراقية تخضع الأجزاء التي تعاني من الخطر بكل أنواعه إلى رعايةٍ خاصة إلا في لبنان. فهيروشيما بعد القنبلة النووية أصبحت من أجمل البلدان بعد إعادة اعمارها وكذلك النورماندي في فرنسا وبرلين في ألمانيا وغيرها. أما عندنا فقد تدمر الجنوب من قبل إسرائيل مئات المرات وآخرها في تموز عام ٢٠٠٦ لكن السنيورة يعطي الأهالي الصامدين الصابرين بالقطارة ويتصرف بالودائع من دون حسيب ولا رقيب، عقاباً لهم على صمودهم البطولي. في دول العالم المتحضرة لا يغفو للمسؤولين جفن إذا حصل لمواطن واحد أو منطقة أي مكروه، أما عندنا فالمسؤول لا يتجشم عناء “السفر” إلى منطقة منكوبة بكل المقاييس. فمنذ “الاستكلال” كم من رئيس زار الجنوب، باستثناء الهراوي ولحود؟ بل كم وزير داخلية أو دفاع حظينا به؟
ولكن بعد كل هذا التاريخ غير المشرف للدولة، قام أهل الجنوب وردفاؤهم في البقاع والشمال باكبر عمل مشرف عندما دافعوا عن ارضهم وانتصروا على أعتى قوة على وجه الأرض فدفعوا الجزية والضريبة عن كل الوطن بالدم والارواح من دون منة ولا شكورا. ولكن حتى بهذه الكلفة الباهظة “مش خالصين” حيث يطلع علينا كل يوم صغار القوم الذين يهاجمون الوسيلة الوحيدة التي اعطتهم المنعة والعزة والكرامة إلى ولد الولد وإلى يوم الدين (هل قرأ أحد تصريح الماما معوض مؤخراً ؟).
ثم يطل علينا بيان البطاركة يؤيد فيه أقوال بطرك العروبة ليوم وحيد، المنحازة كالعادة مع جوقة “١٤ آذار” ويستغرب “الحملة” على ألبطرك! الحقيقة لم نعد نستغرب كلام البطرك أبداً. ما نستغربه هو هذا الإستغراب للحملة عليه خصوصاً بعد الرد الوحيد لدحض أقواله من قبل الشيخ أحمد قبلان والردود المقتضبة المهذبة من هنا وهناك مع العلم أن أصحاب الشأن لم يردوا! ثم كيف يقحم رجل دين نفسه بالسياسة ويقوم بحملةٍ طعن شعواء على فريق كبير ومؤثر في هويته وانتمائه الوطني، ولا يحق لنا أن نستغرب ونستنكر حملته هذه؟ إنه بلد المفارقات العجيبة!
بالمناسبة لم يتحفنا بيان البطريركية بأي ذكر لاسرائيل واجهزتها التجسسية وتأكيدها على الاستمرار في التجسس والتخريب. فالمرة الوحيدة التي إنتقد فيها إسرائيل في البيان السابق تكفي المؤمنين شر القتال ربما لمدة ٥٠ سنة مقبلة مثل زيارات وزير الداخلية إلى الجنوب!
بيان البطاركة خلص إلى القول إن “التراشق المؤذي والتجريح القائم بين هذه وتلك من الفئات السياسية لا يدلان على روح وطنية صادقة، فيما الواجب يطلب قبول الآخر والتحاور المخلص معه وتضافر الجميع للعمل على ما فيه خير البلد وازدهاره وطمانة أبنائه”. فمن بدأ يا هل ترى بالتسميات والتجريح ضد شعبٍ يحمل دمه على كفه كل يوم ويتصدى لاكبر قوةٍ غاشمةٍ على الحدود بينما غيره يتمتع بالصيف والهواء المنعش والصفصاف والكهرباء ويقيم المهرجانات ويجني الأرباح من الخليجيين المصطافين والمصطافات؟
Leave a Reply