ليس الخلاف على توزيع الحقائب الوزارية في الحكومة المزمع تشكيلها بين العماد عون وسائر الأفرقاء بمن فيهم بعض خلفائه، سوى انعكاس لأزمة كيانية يعيشها المسيحيون في لبنان عنوانها فقدان الدور وضياع كل المكتسبات التاريخية التي انتزعها جبل لبنان منذ عهد المتصرفيات الأربعة إبان الحكم العثماني، ومن بعده الانتداب الفرنسي الذي وطد دعائم الحكم اللبناني بطرازه الماروني الذي أطاحت به الحرب الأهلية التي نشبت عام 1975، واستعاضت عنه بتسوية الطائف التي نقلت مركز الحكم من الجهة المسيحية إلى الإسلامية دون مراعاة التوازن الطائفي ومن دون أخذ العبر من عملية التهميش التي مورست على مر العقود المنصرمة بحق الطوائف الأخرى.
نتيجة، فقد أعادت تسوية الطائف إنتاج أزمة الحكم بطريقة معكوسة من خلال قلب الأدوار ونزع صلاحيات رئيس الجمهورية ومنحها لمجلس الوزراء مع إغفال تنظيم العلاقة التي تحكم علاقة الوزارء برئيسهم، فكان أن علقت تلك الصلاحيات بيد رئيس الوزراء التي اعتبرها ملكا للطائفة السنية وأحد أصول المذهب. وهذا ما برعت حكومة السنيورة الأولى في استخدامه واللعب على أوتاره، فتحول رئيس الوزراء إلى داعية إسلامية (ينقصه فقط الدشداشة وإطلاق لحيته) يخرج على الملأ كل يوم جمعة بخطبة دينية – سياسية. من “مسجد السراي الحرام” بعد إقامة الصلاة بإمامة المفتي، وأصبح كل مهاجم لرئيس الوزراء كمن يعتدي على الخليفة، وكل مطالب باسقاط الحكومة كمن يطالب بهدم الكعبة، وبسرعة تحول المسيحيون إلى أهل ذمة والشيعة إلى روافض وفؤاد السنيورة إلى الخليفة عثمان.
وكما خاض كمال جنبلاط معركته لإصلاح النظام السياسي وإلغاء الطائفية السياسية على مدى ثلاثة عقود انتهت بإلغاء حياته مأساويا عام 1977، كذلك العماد عون ولو من موقع معاكس وبأساليب مختلفة، فشل في إصلاح النظام أو تعثر في بداية الطريق نتيجة خسارة الانتخابات التي حرمته النطق باسم أكثرية قادرة على السير بمشروع الاصلاحات وتعديل الطائف، ولم يتخل عنه حلفاؤه، بل قدموا له مزيدا من الدعم واصطفوا خلفه، بخلاف كمال جنبلاط الذي وعلى مدى حياته السياسية، تعرض لكل أشكال الخيانات والتنكيل من حلفائه بعد أن وصلوا الى سدة الرئاسة بدعمه وتأييده، ما دفع الرجل إلى اليأس من إمكانية إصلاح النظام بالطرق السلمية والديمقراطية، فاجتهد على ما اعتنقه من التجربة “الغاندية” وأفتى بضرورة المقاومة المسلحة إذا فشلت “المقاومة السلمية”. ولا يعكس تلك المرارة التي ورثها وليد جنبلاط عن أبيه إلا قوله “أسألوا آل جنبلاط عن الجنس العاطل”.
في عام 1952 بعد نجاح الثورة البيضاء التي خاضتها الجبهة الاشتراكية لإسقاط ولاية الرئيس بشارة الخوري المجددة، لم يكن بامكان كميل شمعون أن يتسلق سلم الرئاسة إلا بمساعدة كمال جنبلاط ومباركته، حتى أن شمعون قام بالتعهد خطيا بتنفيذ التزاماته تجاه الجبهة الاشتراكية التي كان يرأسها جنبلاط. وما إن انتخب شمعون رئيسا للجمهورية حتى نكص عهده وتخلى عن ابن المختارة الذي قال: “شو بِهدّي ابن دير القمر إذا صار كميل شمعون رئيس الجمهورية”. ثم قال لاحقا “أدركنا خطأنا التاريخي في تقدير الأشخاص”.
كذلك الأمر مع الرئيس سليمان فرنجية الذي عقد اتفاقا مع كمال جنبلاط بتوليه وزارة الداخلية بعد فوزه بانتخابات الرئاسة التي لم يكن بمقدوره الفوز بها بدون أصوات الكتلة الاشتراكية. نكص فرنجية عهده وبقي كمال جنبلاط خارج السلطة، بل وتم تعيين صائب سلام ألد أعداء جنبلاط رئيسا لأول حكومة في العهد الجديد. اغتيل كمال جنبلاط تاركا وراءه إرثا لم يستفد منه وريثه في المختارة التي حولها من زعامة وطنية واسعة إلى زعامة مذهبية ضيقة انتهت بإضافة مزيدا من التقعيد على امكانية إصلاح النظام.
خاض الجنرال عون معركته للوصول إلى السلطة عام 1989، من غير أن يطرح مسألة إصلاح النظام بشكل عادل وقويم، بل خاض معركته من منطلق ملء الفراغ على الساحة اللبنانية ومن منطلق عسكري كقائد للجيش يريد حسم مسألة وصوله الى السلطة. فرست التسوية الإقليمية – الدولية على الإطاحة به ونفيه إلى فرنسا ليعود بعد 15 عاما من منفاه وقيد نظرة تجربة مريرة، وفي ذهنه إصلاح النظام وتعديل اتفاق الطائف بعد أن خبر الحروب وشرورها ومآسيها، وبعد أن وصل إلى القناعة بأن ما مارسته المارونية السياسية كان من أسوأ ما يكون بحق الآخرين، ولكنه اصطدم بـ”سنية سياسية” من أبشع ما يكون وبتواطؤ سياسي من حلفائه للإطاحة به مرة أخرى.
واليوم يتعثر مشروع الإصلاح في لبنان، بل يمكن القول بأنه لا أمل في الإصلاح ولا أمل بإلغاء الطائفية السياسية ولا أمل بدولة تعتمد الكفاءة ونظافة الكف معيارين لتحديد الأهلية في الإدارات العامة ومجمل وظائف الدولة، لا أمل بكل ما يمت إلى الدولة العصرية بصلة.. وتحول مشروع العماد عون الإصلاحي إلى مشروع استعادة الدور المسيحي المفقود بتواطؤ إيجابي من حلفائه، تختصره يوميات تأليف الحكومة ولقاءات الرابية وبيت الوسط بالعبارة التالية: لا حكومة بدون العماد عون ولا حكومة بدون جبران باسيل ولا حكومة بدون وزارة الاتصالات.. في استعادة جزئية لدور منعته الانتخابات الأخيرة من استعادته كليا.
Leave a Reply