الرئيس الفلسطيني محمود عباس ملأ في الآونة الأخيرة الدنيا ضجيجاً باعلانه نيته التنحي عن ترشيح نفسه لهذا المنصب. ومنصب “الرئيس” في فلسطين للعلم كاريكاتوري أو بروتوكولي أو فخري في أحسن الاحوال، إذ كيف لرئيس دولة أن يأخذ تصريحاً ممهوراً بخاتم نقيب في جهاز الاستخبارات الاسرائيلي “الموساد” حين يرغب بالسفر الى دولة مجاورة كالاردن او مصر مثلاً، أو حتى التنقل في ارجاء الضفة الغربية. بل إن أبو مازن باعترافه، أو بزلة لسان، قال إنه حين يغادر “منطقته الخضراء” في رام الله، يكون محفوفاً أو مخفوراً بآلية عسكرية اسرائيلية، خشية تعرضه للإغتيال، فالرجل دفعته أقداره ان يكون مغضوباً عليه من اصدقائه واعدائه، فهو كمن وقع بين مطرقة احتلال وسندان مقاومة.
يدرك عباس ان سياساته التي تبناها منذ اتفاقات “أوسلو”، وهو كان مهندس تلك الاتفاقات، حتى اللحظة، لم تكن يوما تحوز على رضى الشارع الفلسطيني ولا الاجنحة المقاتلة في منظمة التحرير. وقد أدت تلك السياسات إلى تصدع وانشقاق بين الفلسطينين، وداخل حركة “فتح” التي يتزعمها، وهي لم تأت للفلسطينيين بحل ناجز لقضيتهم، يفضي الى الحد الادنى الذي قبلوا به و قبل به معهم العرب والعالم، وهو اقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67، تكون عاصمتها القدس الشرقية، وحل عادل لقضية اللاجئين.
أدرك عباس أخيرا ان ذهنية الاسرائيليين غير جاهزة بعد، للتوصل الى سلام بين شعبين يعيشان جنبا الى جنب وأدرك أن الولايات المتحدة حتى بوجود رئيس “معتدل” في بيتها الابيض، غير قادرة على فرض حل تاريخي ودائم، خاصة بعد أن فشلت في لجم الاسرائيلين من الاستمرار في بناء مستوطنات على اراضي الضفة الغربية، وهي معضلة برغم اهميتها إلا انها لا تشكل سوى جزء طفيف من الصراع.
يقول مراقبون إن تنحّي ابو مازن مناورة تكتيكية هدفها جذب مزيد من الالتفاف الجماهيري حوله، كجزء من حملته الانتخابية، ويقول آخرون ان هدفه من اعلان التنحي هو للضغط على واشنطن والحكومة الاسرائيلية لتلبية شروطه لاستئناف المفاوضات بخصوص الوضع النهائي للاراضي المحتلة,، خاصة وانه أبقى الباب موارباً لإمكانية رجوعه عن قرار انسحابه من المسرح السياسي في الشرق الاوسط، حين قال إنه بحوزته خيارا ثالثا غير المقاومة والتفاوض سيلجأ اليه اذا لم يعد الاسرائيليون عن تعنتهم و غرورهم. وقد رفض عباس الافصاح عن طبيعة او شكل هذا الخيار، مؤكدا أنه غير عسكري ولا عنفي.
وبحسب تسريبات تناقلتها وسائل اعلام في المنطقة فإن “أبو مازن” قد يعلن قيام دولة فلسطينية من جانب واحد، على كامل الارض المحتلة في عام 67، بما فيها القدس الشرقية، وانه أخذ تعهدا من دول عربية وأوروبية بالاعتراف بهذه الدولة وضمها الى هيئة الامم المتحدة، ومن شأن ذلك ان يعتبر التواجد الاسرائيلي في منطقة فلسطينية تواجدا غير قانوني يستدعي مقاومته. ويقال ان الرئيس الاميركي باراك اوباما الغاضب من سياسات رئيس الوزراء الاسرائيلي نتينياهو، أخذ علم بهذه الخطوة الفلسطينية المفترضة، وربما يؤيدها، كسبيل للوفاء بوعود قطعها على نفسه في خطابين القاهما في كل من القاهرة وأنقرة، حاول فيهما التقرب من العرب والمسلمين، وعلى إثرها تبدلت صورة أميركا في كامل الشرق.
محمود عباس إن فعل هذه الخطوة او فعل غيرها، يظل عهده موسوما بانشقاق الفلسطينين الى نصفين؛ واحد في الضفة و آخر في غزة، لن يشفع له التاريخ، مهما حقق من مكاسب وانجازات، ما لم تعد المياه الفلسطينية الى مجاريها، ضمن صيغة توافقية يرضى بها جميع الاطراف، اذ ان خطوته باتجاه اعلان دولة من جانب واحد ستواجهها اسرائيل بالحديد والنار، وساعتها سيتصدى رجال المقاومة للجيش الاسرائيلي ويكونوا أول من يرووا بدمائهم ثرى الدولة العتيدة وعاصمتها القدس الشريف.
محمد حسين الرموني
Leave a Reply