بعد مخاض عسير امتد نحو خمسة أشهر، أبصرت ثاني الحكومات في عهد الرئيس ميشال سليمان النور. إنجاز التشكيل الحكومي الذي اعتورته تعقيدات داخلية واقليمية ودولية بدا “فتحا” في عالم السياسة اللبنانية الراهنة.
فاللبنانيون من كل الفئات والمشارب والمذاهب، وبكل التضحيات التي قدموها على مر سنوات المحن التي ابتلوا بها، يستحقون حكومة ترعى شؤونهم الحياتية اليومية والتي تتقدم في اهميتها على أية شعارات وبرامج سياسية و”نضالية” يرفع لواءها قادة الطوائف الذين “ائتلفوا” أخيرا وبفضل إرادات خارجية ضمن حكومة يصرون على تسميتها بـ”حكومة وحدة وطنية”.
لكم لو تجازونا هذا الاصرار على تغليف الخلافات العميقة التي ضربت جذورها في أعماق التربة اللبنانية الخصبة لنمو كل أنواع الخلافات السياسية والطائفية والمذهبية، بتسميات لا تعبر عن المضمون الحقيقي لهذا النوع من الحكومات الذي استدعى تأليفها تضافر جهود عربية واقليمية ودولية، يبقى السؤال عما بعد التأليف وعن رحلة المركب الحكومي في بحر الصراعات الاقليمية المتلاطم الأمواج.
فالابحار من مرفأ التأليف الحكومي بعد طول لأي وانتظار، سئم منه اللبنانيون، يتطلب من القباطنة (باعتبار أن لا قبطان واحدا يسيّر دفة المركب) التزود ببوصلة واحدة توصل إلى شاطئ الأمان. والحكومة الوليدة أمام تحديات وأنواء لن يكون من السهل تخطيها إذا اختلف “البحارة” على الوجهة. وما مرّ به لبنان ولا يزال لا يفيد، أقله حاضرا، بأن أولي الأمر من قادة الطوائف قد “ائتلفت” قلوبهم بمجرد صدور مراسيم التأليف الحكومي والدليل أن عملية التأليف ظلت عالقة في عنق زجاجة الحقائب والأسماء لأشهر، ولم يخرجها منها سوى عمليات “لي أعناق” مارستها قوى ذات نفوذ على الساحة اللبنانية المشرعة على كل أنواع التدخلات.
وبالرغم من “الكلام الجميل” الذي سمعناه من “دولة الرئيس” سعد الحريري ومن أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله والجنرال “العنيد” ميشال عون، عن مرحلة جديدة من التعاون وعن عدم تحويل الحكومة إلى ساحة للمتاريس المتقابلة، إلا أن سنوات الفرقة والانقسام المرة تتطلب أكثر من تطمينات إعلامية عن عودة الصفاء والنقاء إلى العلاقات بين الطوائف والمذاهب التي ظلت حتى اللحظة الأخيرة تقف وراء متاريسها الطائفية والمذهبية، وتتناوش بنيران القصف الكلامي المركز حينا والمتقطع أحيانا.
ويدرك المتابعون لتفاصيل الشأن اللبناني أن “حكومة الوحدة الوطنية” قادرة على تغيير جلدها بسهولة والتحول إلى “حكومة تناقض وطني”، في أية لحظة اقليمية “مؤاتية”، بل إن التوصيف المنصف للحكومة الوليدة يقتضي الحذر من إسباغ سمات الوحدة والإلفة على تشكيلها ذات الطابع التكنوقراطي الطاغي عليها، وأن انفجار هذا النوع من الحكومات من الداخل احتمال وارد بقوة في ظل التناقضات والصراعات التي تخبو طورا وتتأجح طورا في منطقة توصف بأنها تعيش على برميل من البارود.
ولكن محنة “حكومة الوحدة الوطنية” تكمن أساساً في الأمال المعلقة على أدائها، ليس من جموع اللبنانيين الذين تلقوا بمشاعر متناقضة وببرودة لافتة “نبأ التأليف” بل من الجهات التي أسهمت في توصيل قطعها المتنافرة وتركيب صورتها المعقدة، وهي جهات لكل منها رهان مختلف على “الحصان الحكومي اللبناني”.
كلام رئيس البلاد العماد ميشال سليمان إلى صحيفة “السفير” غداة تشكيل الحكومة ربما كان الكلام الوحيد الذي لامس الواقعية في النظرة إلى عمل الحكومة المقبل عندما أشار إلى أنه “إذا تعذر التوافق في مجلس الوزراء في المواضيع الأساسية التي تحتاج إلى الثلثين فإن التصويت يبقى أبغض الحلال إذا أقفلت كل الأبواب الأخرى أمامنا”. وعندما يضطر رئيس البلاد إلى “الاعتراف” بأنه “ربما لم يكن علي أن أثير مسألة إصلاح الأخطاء في صلاحيات رئيسي المجلس النيابي والحكومة بالطريقة المباشرة التي استخدمتها في عمشيت (مسقط رأسه) لئلا يساء فهمي وحتى لا “ينقز” مني أحد فإنني إذا شعرت أن طرح هذا الملف يمكن أن يهدد الوحدة الوطنية فإنه قد يكون من الأفضل حينها تأجيل الخوض فيه إلى حين نضوج اللحظة المناسبة”.. عندئذ تتأكد هشاشة الوضعين الحكومي والدستوري في بلد كتب عليه أن يقضي معظم حياته في غرف الإنعاش الخارجية ولا يخرج إلى نقاهة حتى يصاب بانتكاسة جديدة بسبب فقدان المناعة الوطنية الذي ابتلي به منذ استقلاله قبل نحو 62 عاما!
Leave a Reply